"الكونج" هي الرواية الأولى للكاتب السوداني حمور زيادة، صدرت سنة 2010 عن دار ميريت، ثم أُعيد نشرها في طبعة ثانية عن دار العين 2015، ماذا أقول عن هذه الرواية اللذيذة السهلة العميقة الممتعة، ورغم صغر حجمها فإن أثرها الذي تتركه على وجدان القارئ كبير، وفعلها هذا أعاد ذات الأسئلة التي طرحتها على نفسي في بداية مشواري الفني الكتابي، وهي ماهية مستلزمات العمل الفني الذي لا يتأتى عن طريق التعليم والتلقين بورش كتابية احترافية، تعلم الكاتب كيفية كتابة رواية حسب الزمان والمكان والشخصيات والتقنية، لكنها تضيع عليه فرصة اكتشافات معرفية فنية عظيمة لا يمكن الوصول إليها إلا بالتجارب وطرح الأسئلة، فمثلا هل يكفي الإلهام وحده للإتيان بالعمل الفني؟ ثم تكتشف أنه لا، فأنت محتاج للمغامرة حتى تأتي به، والتجربة محتاجة إلى مقامرة ونسف التقليدي والمعتاد، والمقامرة تريد الجرأة، وهذه لا تقوم بدون معرفة، وهي بالتالي تستند إلى التنظيم الذي يحتاج إلى الإنصات لروح النص، الذي هو بدوره يتطلب التحليق بروح التخيل الذي ينتجه التقمص لشخصيات وزمان ومكان النص، وحتى مع توفر كل هذه المستلزمات قد لا يُكتب النص لأنه لم يتوفر له "الدينامو" الطاقة الدافعة لتحققه ألا وهي النار العظيمة المسماة بالشغف، وهل بعد توفرها نضمن كتابة رواية عظيمة مميزة؟

Ad

أيضا قد يكون الجواب بالنفي لأنها كانت بحاجة إلى الصدق والبساطة وعدم التكلف و"الحزق" في عملية الخلق الفني.

وهذا ما أتت به رواية الكونج التي سأعود إليها لاحقا، لأنها رواية امتلكت كل ما ذكرته من مستلزمات العمل الفني الأدبي، مع توتر يُبقي القارئ مشدودا حتى نهايتها التي تقوده إلى معرفة قيمة ومتعة لذة القراءة، وليس توتر يجعل القارئ يلهث خلفه ثم يحيله إلى السراب، مثال على ذلك رواية "شفرة دافنشي" التي هي مثال للهرولة خلف سراب لا قيمة له سوى ما بثه من توتر عال لبث الإثارة.

النص الجميل لا يكتفي بكل ما أشرت إليه، بل يجب أن يمتلك سحر البيان وسحر الكتابة حتى يمنح القارئ لذتها التي تستديم وتعشش في ذاكرته إلى الأبد.

رواية الكونج حققت هذه المعادلة، وهي لا تبتعد كثيرا عن رائعته الثانية "شوق الدراويش" التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر، وكانت تستحقها بجدارة، حمور زيادة نقل لنا السودان بشحمه ولحمه وبكل تفاصيله المجهولة لنا، سواء في روايته الثانية التي تناولت حقبة من التاريخ السوداني، أو روايته الأولى التي قدمت تفاصيل القرية السودانية، وهي في غاية الإمتاع وبلغة سهلة جميلة، فمثلا يصف قرية الكونج بالآتي: "تنام الكونج في حضن منحنى النيل في شمال البلاد، تجري الأفعى المقدسة هابطة من قلب القارة شاقة الخضراء حتى تصطدم بالصحارى التي تكسر حدتها، فتنثني على نفسها، تزمع النكوص ثم تُقدم، وفي حضن نكوصها ترقد الكونج غافلة عن تقدمها ونكوصها. لا يشغل القرية مسرى النيل ولا نهايته. فهو هنا منذ تفتح نخيلها، وهو هنا بعد أن تسقط أزهار البرتقال. منكفئة على نفسها تقتات حكاياتها وتمضغ بنيها. يلهيها عما حولها أنها القرية ذات الخراء المبارك، وكفى".

الرواية كلها قائمة على النميمة في مجتمع قروي ينام ويصحو عليها، حيث تتداخل تفاصيل حياتهم بعضها في بعض، ولا توجد أسرار مخفية عنهم، فالفتن والغيبة والنميمة هي زاد هذا المجتمع القروي ومتعته التي تحييه وتقيته، وكما وصفها "لا يشغل الكونج إلا نميمتها. تتدحرج الأيام وتتسع النميمة أو تضيق. هل يمكن أن يتغير شيء؟".

شخصيات الرواية كلها تتبادل النميمة وتشي في بعضها البعض، ومن هذه النميمة ينمو ويكبر السرد وتتوالد الحكايات الفضائحية الغريبة التي لم أتخيل حدوثها في مجتمع قروي سوداني صغير وكما عبر عنها الكاتب: "في رتابة حياة شمال البلاد يتحول كل حدث غير معتاد إلى مهرجان. وفي الأحداث غير المعتادة تسقط الأعراف والتقاليد، ويمكن تجاوز التراتبية الاجتماعية، ويجوز التعدي السافر على كل قيمة. يُحتفى بها في غير الوقت الاستثنائي".

من جمال هذه الرواية أحببت أن أنقل بعض تفاصيلها إلى القارئ، لذا سألحقها بمقال آخر يبين للقارئ ماهية جودة النص الأدبي المتحقق في هذه الرواية.