حرية التعبير حق جوهري ومطلق بدونه من المحال التمتع بأي حق مدني آخر، وغيابها ينتفي معه حكم القانون الذي يتمتع الناس في ظله بمحاكمة عادلة أو تأسيس نظام ديمقراطي يتمكن الأفراد فيه من عرض الأفكار والرؤى ويقوم آخرون بمساءلتها ونقضها وتفنيدها، أو صنع نظام تعليمي يستطيع الأفراد فيه طرح أفكار واختبارها وممارسة ثقافة البحث والشك والتساؤل.

Ad

ليس جديدا بحال من الأحوال القول إن الأدب هو البوابة الكبيرة التي من خلالها تعبر التحولات الإنسانية الكبرى، وهذا الانتقال من طور لآخر يشترط علاقة تصالحية بين الأدب وحرية التعبير عن الرأي كيما تنجز هذه التحولات، وإلى الدرجة التي يصح معها القول- على سبيل الإحاطة- إن الانتقال من العصر الفيكتوري المحافظ إلى الحداثة في بريطانيا قد تأتى من الأدب، وفي مقدمته روايات توماس هاردي، وإن انعتاق ثقافة تروم التحرر كالثقافة النرويجية من سطوة الثقافة الدنماركية المتزمتة اكتسب زخمه من مسرحيات هنريك إبسن، فبيئة الأدب والفنون ومختلف المنجزات الإبداعية لا تجد ما ينعش ازدهارها سوى الحرية، ولذا كان شائعا ومألوفا في المجتمعات الإنسانية أن يكون خصوم المبدعين دوما هم أنفسهم خصوم الحرية أو الفئات الأكثر تحسسا وتطيرا منها.

ولكن الشاذ والغريب انقلاب الآية في ما يخص قضايا حرية التعبير، فتنتقل البنادق من كتف إلى كتف ويغدو بعض نشطاء الجسم الأدبي أو أكثرهم صخبا في أوساطه هم من يدعون إلى تقييد حرية التعبير، كما شهدنا في عدة مناسبات مؤخرا. ولم تكن تلك المواقف، التي جعلت دون أدنى شك القوى المتزمتة تفرك يدها اغتباطا، إلا تعبيرا ساطعا عن هشاشة الوضع الثقافي في مجتمعنا، كما أنها على نحو أو آخر، في قليل أو كثير، مرآة للتراجع والتسطيح الهائلين اللذين يضربان أطنابهما في تفاصيل حياتنا، ولئن كانت حرية التعبير الأداة الوحيدة التي يملكها المبدعون في الدفاع عن آرائهم ونظرتهم للعالم والكون، فإنها ضرورية لولوج فضاءات يواجه فيها المرء ضروبا متباينة من الاضطهاد والقمع والكبت.

لكن الأهم، أن حرية التعبير تعد حقا جوهريا ومطلقا بدونه من المحال التمتع بأي حق مدني آخر، ذاك أن غياب حرية التعبير ينتفي معه حكم القانون الذي يتمتع الناس في ظله بمحاكمة عادلة أو تأسيس نظام ديمقراطي يتمكن الأفراد فيه من عرض الأفكار والرؤى ويقوم آخرون بمساءلتها ونقضها وتفنيدها، أو صنع نظام تعليمي يستطيع الأفراد فيه طرح أفكار واختبارها وممارسة ثقافة البحث والشك والتساؤل.

فالحياة الثقافية والفكرية لن تكون قادرة على الحياة بدون أن تكون هناك حرية أصيلة للكتّاب والفنانين كي يطرحوا منظورهم ورؤاهم وتصوراتهم لأبناء مجتمعهم، وكذلك مساءلة بعض ما هو موجود في المجتمع من أفكار وظواهر وممارسات متى ما كان ذلك أمراً لا بد منه؛ ولهذا فحرية التعبير هي الأساس في مفهوم الحرية والحقوق المدنية بمفهومهما الأوسع.

ربما يميط هذا اللثام عن نقص فادح في تراكيبنا الثقافية، فالدفاع عن الحق في حرية التعبير لمن نمقت أفكارهم  وننبذ رؤاهم هو المحك الكبير لالتزامنا بحرية التعبير، فليست هناك أي جدوى في الدفاع عن حق حرية التعبير لمن يتفق المرء معهم بالرأي، فالمقياس الدقيق للالتزام بالحرية هو الدفاع عن حق الفرد في التعبير عن أفكار وتصورات كرسنا حياتنا في نقضها وتفنيدها.