لا مفر من أن تتخذ العلوم منحىً خاطئاً بحثاً عن الحقيقة. في عام 2005، نشر جون يوانديس، أستاذ طب في جامعة ستانفورد، دراسة بعنوان «معظم الأبحاث المنشورة خاطئ»، وأثبت عبر حسابات رياضية أن عدداً هائلاً من الدراسات المنشورة يكون شائباً على الأرجح. حلّل أيضاً بعض الأبحاث الطبية المرموقة واكتشف أن نتائج 41% من 34 دراسة أُعيد اختبارها تبدو متناقضة أو مبالغاً فيها.منذ ذلك الحين، وجد الباحثون في مجالات علمية كثيرة صعوبة في تكرار النتائج المهمة التي توصلت إليها دراسات بارزة. وفق بعض التقديرات، يرتكز 51% من المقالات المنشورة على الأقل (أو حتى 89% منها) على دراسات وتجارب تعطي نتائج لا يمكن تكرارها.أعاد الباحثون إطلاق دراسات معروفة من مجالات علمية متعددة وتوصلوا إلى نتائج مختلفة جداً. وأصبح علم النفس التجسيد الأساسي {لأزمة تكرار النتائج العلمية} منذ أن تولى براين نوسيك، أستاذ في علم النفس في جامعة فرجينيا، تنسيق الجهود لإطلاق {مبادرة تكرار النتائج العلمية} عبر نسخ مئة تجربة نفسية، ولكنه لم ينجح في تكرار أكثر من 40%.اليوم، فشلت محاولة تكرار مفهوم نفسي أساسي آخر (انهيار {الأنا}، أي الفكرة القائلة إن قوة الإرادة محدودة ويمكن أن تُستنزَف بسبب فرط استعمالها). قاد مارتن هاغر، أستاذ في علم النفس في جامعة كيرتن، أستراليا، باحثين من 24 مختبراً لمحاولة تكرار أثر أساسي، لكنهم لم يتوصلوا إلى أي نتيجة. من المتوقع أن تُنشَر نتائجهم في مجلة {آراء حول علم النفس} قريباً.ما سبب الفشل؟لا أحد يتّهم علماء النفس الذين يقفون وراء التجارب الأولية بالتلاعب عمداً بنتائجهم. لكن ربما أخفق عدد منهم في جانب أو جوانب عدة من العلوم الأكاديمية التي تشجّع على التحيز عن غير قصد.تكثر الضغوط الأكاديمية مثلاً لنشر النتائج في المجلات، وتميل الأخيرة إلى نشر دراسات مشوّقة تعطي نتائج قوية.صرّح هاغر لمجلة {كارتز}: {تفضّل المجلات كل ما هو جديد ومميز وتدعم التحقّق من الفرضيات بدل التمسّك بصلابة النهج العلمي وصرامته والإصرار على تكرار النتائج ورصد الأخطاء. لذا ركّز الباحثون على إيجاد آثار مهمة والقيام باكتشافات حديثة واختبارها استناداً إلى عينات صغيرة نسبياً}.أدى هذا الوضع إلى ترسيخ أسلوب التحيّز في نشر المقالات، إذ تُنشَر دراسات تعرض نتائج قوية وإيجابية بينما تقبع دراسات تتوصل إلى نتائج متواضعة في مكاتب الباحثين.حين يتمكّن الباحثون من الوصول إلى كميات كبيرة من البيانات، يزداد الميل الخطير إلى البحث عن روابط بارزة. يمكن أن يقنع الباحثون نفسهم بأنهم رصدوا رابطاً مهماً مع أن تلك الراوبط تكون عشوائية بالكامل.مؤشر قوةقد تبدو فكرة أن تنشر المجلات نتائج خاطئة مقلقة، لكن لا تعني الأزمة الراهنة أن النهج العلمي كله خاطئ. يشير تركيز العلم على أخطائه الخاصة إلى أن الباحثين يسيرون على الطريق الصحيح.صرّح إيفان أورانسكي، منتج مدونة Retraction Watch التي تتعقّب النتائج المنشورة في المجلات، لمجلة {كوارتز} بأن هذا القلق سيؤدي في نهاية المطاف إلى زيادة الدقة في مسار العمل.يوضح أورانسكي: {ستكثر الاضطرابات على المدى القصير، أو ربما على المدى المتوسط أيضاً، حين تتضح المشكلة علناً، لكن تضمن هذه الطريقة إحراز التقدم. الوضع أشبه بالعلاج: إذا لم تغضب مطلقاً خلال العلاج، يعني ذلك أنك لا تبذل قصارى جهدك. وإذا لم ترتكب الأخطاء يوماً أو لم تفشل في تكرار النتائج في مجالك، فأنت لا تطرح على الأرجح أسئلة صائبة.بالنسبة إلى علماء النفس الذين شهدوا انهيار نتائج كثيرة خلال فترة قصيرة، قد تكون أزمة تكرار النتائج العلمية محبِطة. لكنها تقدم في الوقت نفسه فرصة لتطوير سياسات جديدة.صرّح يوانديس لمجلة «كوارتز» بأنه يعتبر أحدث الإخفاقات في تكرار نتائج علم النفس إيجابية: «تثبت تلك الإخفاقات أن تكثيف الجهود والانتباه يمهّد لتحسين دقة النتائج المنشورة. لطالما كان أسلوب علم النفس قوياً جداً من الناحية المنهجية وكان رائداً في وصف التحيّزات المتنوعة وأفضل الوسائل المتاحة. لكنهم بدأوا يعملون مجدداً اليوم على تحسين سجل تكرار النتائج العلمية».يسود نقاش واسع داخل أوساط علم النفس مثلاً حول تسجيل التجارب مسبقاً (ما قد يمنع الباحثين من تغيير أساليبهم لتحقيق نتائج أكثر جاذبية)، ما يؤدي إلى انفتاح البيانات والوسائل العلمية وتوسيع حجم العينات وجعلها أكثر تمثيلاً للناس وتعزيز التعاون بين مختلف الجهات.صرّحت دوروثي بيشوب، أستاذة في علم النفس العصبي التطوري في جامعة أكسفورد، لمجلة {كوارتز} بأن عدداً من هيئات التمويل والمجلات يتجاوب على ما يبدو مع هذه الأفكار، لذا تتوقع انتشار هذه السياسات سريعاً حين يتبناها جزء من تلك الجهات.بحث علمي عن العلوميجب أن يتبنى كل مجال علمي وسائله الخاصة لضمان دقة النتائج. لكن في النهاية، يشكّل هذا التفكير الذاتي جزءاً أساسياً من المسار العلمي.أثبت العلم أنه نهج قوي للغاية، بحسب بيشوب. لكن ثمة مجال دوماً لإحراز تقدم إضافي. أوضحت: {ما من نهاية مطلقة لهذه العملية. نطمح دوماً إلى تحقيق إنجاز جديد. يسلك العلم أحياناً مساراً خاطئاً لكنه يعود ويصححه}.بالنسبة إلى نوسيك الذي قاد تجارب لإعادة اختبار مئة دراسة نفسية، يشكّل التركيز الراهن على تكرار النتائج جزءاً بسيطاً من المسار العلمي.يقول نوسيك: {لا يتعلق العلم بالخطأ والصواب، بل بتقليص الشكوك. يُعتبر هذا المشروع كله بحثاً علمياً عن العلوم: يقوم الباحثون بما يُفترض أن يفعله العلم، أي التشكيك بمسارنا وإجراءاتنا ووسائلنا والبحث عن طرق لتحسينها}.
توابل - Hi-Tech and Science
بعض {الحقائق العلمية}... خاطئة!
19-03-2016