تركزت التجارة الخليجية مع شرق إفريقيا في بداية القرن العشرين وأواخر القرن التاسع عشر، في ثلاثة مجالات مربحة تنافس فيها التجار العرب والهنود والأوروبيون، واستفاد منها الساسة وزعماء القبائل، وربما كل من استثمر فيها، وهي تجارة الرق والعاج والسلاح.

Ad

وقد نمت تجارة العاج على نحو خاص مع تشدد الإنكليز في تطبيق التشريعات المحرمة للرق، في حين ازدهرت تجارتا العاج والسلاح، حيث لا تزال هذه الأخيرة حية بشكل من الأشكال في مناطق عديدة من العالم.

 للأستاذ الدكتور بنيان سعود تركي بحث قيم في كتابه الثاني "زنجبار وجوارها الإفريقي" المطبوع في الكويت عام 2010، بعنوان "إلغاء الصفة القانونية للرق في سلطنة زنجبار العربية 1897"، ودراسة أخرى عن دور الجالية الهندية في شرق إفريقيا وفي تجارة الرقيق، وكلاهما من الدراسات التي تستحق التأمل والعرض لقلة الكتابات وأهمية الموضوع، وربما نتناول البحثين في مقال قادم.

من أهم دراسات الكتاب الحالي للدكتور بنيان تركي "الكويت وإفريقيا"، بحث بعنوان "مهن وحرف الرقيق في شرق إفريقيا"، حيث يؤكد د. تركي "وحسب علمي المتواضع لا توجد دراسة علمية أكاديمية باللغة العربية تناولت مهن وحرف الرقيق في شرق إفريقيا، وقد اعتمدت في هذه الدراسة التاريخية على سجلات البرلمان البريطاني والعديد من المصادر والمراجع الأجنبية، وبعض الكتابات العربية المتناثرة هنا وهناك، وكم نتمنى أن تقوم الجامعات الخليجية أو مراكز الدراسات وغيرها بترجمة هذه الكتب والمراجع الأجنبية، لما لها من علاقة مباشرة بتاريخ التجارة الخليجية وحركة الملاحة والحياة الاجتماعية والسياسية في المنطقة".

يقسم د. تركي أعمال الرقيق في هذه المرحلة 1806 -1897 في شرق إفريقيا إلى ثلاث مجموعات هي: الأعمال المنزلية، والعمل في الإقطاعيات الزراعية، والأعمال الحرة.

ويعدّ الرق المنزلي أكثر أنواع الرقّ شيوعاً في أماكن كثيرة من المناطق التي عرفت الرقّ، ولم يكن يسمح لكل الأرقاء بالعمل المنزلي، حيث كان يتم اختيار الزنوج مثلا للعمل في الإقطاعيات الزراعية.

وكان السيد يوفر لمن عنده من الأرقاء المأكل والملبس والمأوى "ولعل هذا ما دفع الكثير من الرقيق إلى رفض الحصول على حريته خوفا من أن يفقد هذه الامتيازات، ولا أدلّ على ذلك من أن أعدادا كبيرة من الرقيق ممن أتيحت لهم الفرصة للحصول على حريتهم فضلوا العيش في كنف أسيادهم السابقين". (ص135).

ويضيف د. تركي أن ملابس الرقيق كانت تدل على مكانة سيده، كما أن كثيرا من الملّاك كانوا يحرصون على تزويج أرقائهم، وعادة كان الزواج يتم بين الأرقاء العاملين في المنزل أو في الإقطاعيات الزراعية، وكان تأسيس مثل هذه الأسر يوفر للسيد استمرارية الخدمة والاستفادة من "أولادهم الذين سوف يرزقون بهم في المستقبل".

من جانب آخر "كان هنالك من بعض العرب ممن كانوا يفدون على الساحل الشرقي لإفريقيا بهدف التجارة ويتزوجون من نساء حرائر من أهل الساحل، كما أن الكثير من أثرياء الهنود امتلكوا الرقيق، وكان الهنود يتحايلون على تحريم الإدارة البريطانية لهم بامتلاك الرق بالادعاء أنهم من رعايا السلطان".

ونشطت كما هو متوقع أسواق الجواري في هذه المنطقة، فيقول د. تركي: "تعد المحظيات والسراري ضمن الرقيق وكان أثرياء العرب والسواحليون يقومون بشراء عدد من الرقيق يختار من بينهن محظيات".

وينقل عن المؤرخ العماني "سعيد بن علي المغيري" في كتابه "جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار"، سلطنة عمان 1979، "إن الغني من العرب في ذلك الزمان من كان في دائرة قصره لا أقل من ثلاثين مستخدما من الزنوج والحبوش، ومن العرب من يملك ألف نفر من العبيد".

ولجأ العديد من أثرياء الهندوس كذلك إلى تملك المحظيات، حيث لم يكن أكثرهم يحضرون زوجاتهم مادام هدفهم ليس الاستقرار "وعندما يغادرون المنطقة يتركون محظياتهم خلفهم، بينما يفضل المسلمون جلب زوجاتهم معهم وفي حالة المغادرة فإنهم عادة يأخذون المحظيات معهم".

وينقل د. بنيان تركي عن "أتكنز هامرتون" القنصل البريطاني في زنجبار في عهد السلطان سعيد البوسعيدي بأنه "لا يوجد بانيان هندوسي أو هندي مسلم ممن استقر في شرق إفريقيا لبعض الوقت، لم يشترِ أمَةً يعيش معها خلال مدة إقامته هناك".

وبينما كان بعض الهنود والأوروبيين ممن ينوون مغادرة شرق إفريقيا يبيعون ما لديهم من رقيق، كان هذا يعد بين العرب من الأعمال غير المحببة، وبخاصة إن أنجبت طفلا فإنها تعد "أم ولد" وتصبح لها حقوق كما لابنها الذي يصبح وريث الحقوق نفسها، وعليه الواجبات نفسها، ومن الممكن أن تحصل على حريتها بعد الولادة بوفاة مالكها.

عمل قسم رئيس من المسترقّين في الإقطاعيات الزراعية، وكان نظام هذه الإقطاعيات شبيها بعض الشيء بالإقطاع في العصور الوسطى!

ويشرح الباحث بيئة العمل كما يلي:

"ويعمل الرقيق في الإقطاعية الزراعية خمسة أيام في الأسبوع من الساعة التاسعة صباحا حتى الساعة الرابعة عصرا، ولا يعني هذا الالتزام الصارم بتلك المواقيت، ومن المعروف أن الرقيق في الإقطاعية الزراعية عندما ينتهي من العمل المطلوب منه فإنه يستغل الوقت لعمل ما يشاء أو للعمل في قطعة الأرض الممنوحة له من سيده، كما من حقه العمل في أرضه قبل ساعات العمل في الإقطاعية وبعدها. وهنا يلعب المشرف على الإقطاعية دورا كبيرا، إذ إن أصحاب الإقطاعيات ليس بالضرورة أن يقيموا في الإقطاعيات الزراعية، إنما يتركون الإشراف عليها للمشرف والذي من الممكن أن يكون أحد هؤلاء الرقيق، ولعل هذا من أحد أسباب تدهور الوضع الاقتصادي للعديد من ملاك الإقطاعيات الزراعية، حيث كان الجيل السابق من الملاك يعمل ويشرف على إقطاعيته الزراعية، بينما أولادهم فضلوا بحبوحة العيش وحياة الرغد". (ص140).

إن دراسة د. تركي للإقطاع في الشرق الإفريقي قد تكون مدخلا لعقد مقارنة بين الإقطاع في هذه المنطقة والمرحلة التاريخية وبين الإقطاع الأوروبي، وبخاصة ما بين حياة وممارسات السادة والعبيد والأقنان من واجبات وأعمال، وكذلك عندما تتناول الدراسة دخول الرقيق في مجال الأعمال الحرة، وأوضاع العمال الأحرار، والإقطاعيات الزراعية، وممارسة المهن والحرف، والاشتراك في القوافل التجارية، بل قيام بعض الرقيق الذين لا يملكون حريتهم وذمتهم المالية بامتلاك الرقيق كالسادة!

ومن المعروف في الدراسات الأوروبية أهمية مرحلة الإقطاع ودور المؤسسات الإقطاعية في تأسيس أوروبا الغربية خاصة، بعكس مناطق أخرى في أوروبا، لم تعرف هذه المرحلة كما عرفتها فرنسا مثلاً، وكان لتحرر الأقنان دور معروف في أوروبا في الثورة التجارية وظهور المدن وتشكل الطبقات الجديدة... إلخ.

أما في هذه المنطقة الشرقية من القارة الإفريقية، فلم تكن تطورات العلاقات الإقطاعية طبيعية أو حرة، إذ كانت تجري بموجب شروط استغلالية نفعية غير مرتبطة بتطور المجتمعات الإفريقية، ولم تسهم في إنضاج الدولة والمجتمع كما في أوروبا وأماكن أخرى.

يقول د. تركي شارحا بعض تفاصيل تجارة الرقيق في الساحل الشرقي، إن هذا النشاط كان معروفا منذ أقدم العصور، وكان عدد الرقيق "بحدود ثلثي عدد السكان الذي كان 208.700"، وكانت السلطات العربية الحاكمة هناك تشجع الهنود على أن يكونوا سماسرة ووسطاء العمليات التجارية في حين تعطي العرب الأراضي والإقطاعيات الزراعية وتترك السواد الأعظم من السكان، يقول د. تركي "ونقصد بهم الأفارقة للعمل لدى العرب والهنود".

وكانت زراعة زهور القرنفل وقصب السكر من المحصولات الرئيسة للتصدير على الأغلب، حيث "كانت مزارع القصب في حاجة ماسة إلى المزيد من الأرقاء، فشجع تزايد الطلب على الأرقاء وازدهار النخاسة في سلطنة زنجبار العربية، وكذلك في الأسواق الأخرى على طول الساحل الشرقي لإفريقيا".

ويميز المؤرخون عادة بين الرق والقنانة، فالرقيق قد يباع في أسواق النخاسة، في حين "القن" فلاح مسترقّ لا يمتلك حريته ولكنه مرتبط بالإقطاعية والعمل فيها، ولا يباع هو أو أي من أفراد أسرته بشكل مستقل عن الأرض والمؤسسة الزراعية الاجتماعية برمتها.

ويقول د. تركي إن التجار الفرنسيين أدخلوا نظاما جديدا في شرق إفريقيا "وفي هذا النظام يقوم التاجر الفرنسي بدفع مبلغ من المال ثمنا للعبيد مما يعطيه الحق بشحنهم إلى إحدى المستعمرات الفرنسية في جزر "ريبونيون" و"موريشيوس" و"مدغشقر"، للعمل هناك فترة زمنية بدون أجر، ويستمر العامل على هذا المنوال إلى أن يستوفي التاجر الفرنسي المبالغ التي دفعها ثمنا للعبد، ومن ثم يعطي العبد الحق بالعمل مقابل الأجر".

فتح العرب لرقيقهم في مناطق شرق إفريقيا المجال للعمل خارج الإقطاعيات وكذلك إدارة أملاك سيده. ويضيف د. تركي أن بعض العرب من محدودي الدخل من عرب حضر موت لجأ إلى شراء عدد محدود من الرقيق للانتفاع بهم وتشغيلهم، بل كان بعض هؤلاء الملاك الحضارمة يسكنون مع رقيقهم في مناطق غالبية قاطنيها من الرقيق، وسمح العرب للرقيق بالتجارة أو ممارسة أي عمل لحسابهم بما فيها البناء والخياطة، كما عمل بعضهم كنواخذة وبجارة وصائدي أسماك، بل كان "معظم بحارة السفن السواحيلية من الرقيق، ووجدت السفن الحربية البريطانية التي عملت على محاربة الرق وتجارة الرقيق صعوبة في التمييز بين الرقيق والأحرار".

وعمل كثير من الأرقاء حمالين تحت إشراف الحضارمة، الذين كانوا يتفقون مع ملاكهم ويدفعون أجور الحمالين لسادتهم، وقد يعمل بعض هؤلاء ساعات إضافية فيحصلون على دخل إضافي، وقد عرفت شرق إفريقيا القوافل منذ أقدم العصور، "وقد يكون مالك القافلة عربيا أو هنديا أو أوروبيا، ويقود القافلة بشكل عام أفارقة أو سواحيليون أو أرقاء مملوكون لأحد تجار الرقيق، كما عرفت زنجبار "عددا من الرقيق ممن يملكون الرقيق". (147).

ويخصص د. بنيان تركي أحد بحوث كتابه "الكويت وإفريقيا" لحادثة في شرق إفريقيا يندر أن يتناولها باحث أو يسمع بها قارئ، وهي "ثورة عربية إفريقية"، بقيادة الشيخ الحارثي "ضد الاستعمار الألماني في شرق إفريقيا". سنطالع أبرز تفاصيلها في مقال قادم.