التمثيل ليس مجرد شعور ظاهري، بل إنه سلوك «دموي» يتطلب تشغيل العواطف البدائية (الحب، الكره، الخوف، الشهوة) وتجسيدها في الأداء، ولو بطريقة ضمنية».يكون أفضل الممثلين أشبه بالصيادين الذين يعرفون أن أعظم الأدوار تنتظر منهم أن يؤدوها ويحولوها على طريقتهم. يبدأ أفضل الممثلين مسيرتهم في مرحلة شابة ويكتسبون المعارف من أخطائهم. يجب أن يمثلوا ويطلقوا العنان لجنونهم. في الوقت الراهن، يُعتبر ليوناردو دي كابريو ملكاً على عرش السينما، فلا أحد {يصطاد} الأدوار ويبرع في الأداء مثله. تكمن قوته الحقيقية في قدرته على انتقاء الأدوار التي يريد تجسيدها بمكالمة هاتفية بسيطة. إذا أبدى ليوناردو اهتمامه بمشروع معين،سيضمن إنتاج ذلك الفيلم بسهولة. ويمكن أن يؤدي قبوله للدور إلى تخصيص ميزانية ضخمة واختيار ممثلين من الصف الأول لمشاركته العمل. كذلك، تكون موهبته كفيلة بتقوية السيناريوهات الضعيفة، فتحمل كل كلمة يقولها ثقلاً مختلفاً.رغم براعة ليوناردو التمثيلية على الشاشة الكبيرة، تبقى شخصيته الحقيقية غامضة. مثل شخصية {غاتسبي} التي أداها، يحرص الممثل على الاحتفاظ بحقيقته لنفسه. بدأ ليوناردو التمثيل منذ مرحلة المراهقة لكن لا تزال هويته مبهمة. لا يعني ذلك أنه يسعى إلى عيش حياة طبيعية بعيداً عن مهنته السينمائية، لكنه رجل أعزب ولم ينجب الأولاد بعد ويعيش على صدى الأصوات التي تهمس باسمه. ربما يكمن سحره الحقيقي في هذا الجانب من حياته الشخصية. لا يبرع ليوناردو في نقل المشاعر فحسب بل إنه يتولى الآن إنقاذ العالم أيضاً!في 11 نوفمبر 2015، احتفل الممثل والناشط البيئي ليوناردو دي كابريو بعيده الواحد والأربعين. اختفى الفتى الظريف والمحبوب الذي عرفناه منذ 25 سنة وشارك في 28 فيلماً ليحلّ مكانه رجل لديه لحية وندوب على وجهه ويحمل نظرة ثاقبة. يُعتبر هذا التحول إيجابياً، لا بالنسبة إلى المعجبين بوسامة هذا الممثل، بل بالنسبة إلى محبي دي كابريو الممثل والإنسان. فهو يحاول منذ عام 1993 أن يثبت براعته ويتجاوز وسامته الخارجية.استعمل دي كابريو ميزاته بطريقة ممتازة. بعد أن أثبت مهاراته التمثيلية كمراهق في فيلمWhat’s Eating Gilbert Grape (ماالذي يضايق جلبرت غريب)، كسب قلوب المشاهدين في فيلمَي Romeo and Juliet وTitanic خلال التسعينيات. وبعد عام 2000، سحر النقاد في فيلمَي Catch Me If You Can (أمسكني لو استطعت) وAviator (الطيار). ثم نجح في إثبات مصداقيته كممثل في فيلم Gangs of New York (عصابات نيويورك) لمارتن سكورسيزي وThe Departed (الراحل) وShutter Island (الجزيرة المقفلة) قبل أن ينضج أداؤه في فيلم Inception (الاستهلال) لكريستوفر نولان وDjango Unchained (جانغو المتحرر من القيود) لكوينتن تارانتينو.يبلغ هذا المسار التطوري مستويات جديدة في أحدث فيلم له وأصعب عمل شارك فيه كما يقول. اقتُبس The Revenant (العائد) من رواية مايكل بانك التي صدرت في عام 2002. يروي الفيلم قصة وحشية مدتها 156 دقيقة ويعكس ملحمة عن الصمود وقوة التحمل للمخرج أليخاندرو إيناريتو الذي أخرج Birdman (الرجل الطائر) الفائز بجائزة أوسكار في السنة الماضية.يؤدي دي كابريو دور المقاتل {هيو غلاس} فينصب له تجار استغلاليون كميناً ويهاجمه دب ويبقى وحده لمواجهة مصيره في غابة مخيفة من أميركا الشمالية في عام 1823. يقول دي كابريو عن هذا الدور: {إنه رجل غريب عن محيطه وتكون زوجته وابنه من السكان الأصليين الذين اعتادوا على عالم الطبيعة. يتدفق عدد كبير من الناس إلى هذا المكان لمحاولة استخراج الموارد الطبيعية. تدور الأحداث قبل فورة الذهب وال نفط. يكون الفرو المورد الطبيعي الذي يتم استخراجه لشحنه إلى أوروبا. يتعرض السكان الأصليون للذبح وتُقطَع الأشجار. فيظهر هذا الرجل الذي يعيش بسلام وتناغم مع العالم ويبدأ أول جولة من الصراع}.في العادة، لا يحب دي كابريو التحدث مع الصحافة، لكنه يحب التكلّم عن فيلم The Revenant لحسن الحظ. ينجح بتقمص الشخصية بصوته الأميركي العميق وعضلاته القوية وبنيته الصلبة وشجاعته الواضحة. يعتبر دوره في الفيلم شخصية تاريخية محورية و{رمزاً لروح الصمود الأميركية} ويحرص على مراعاة جميع جوانب القصة ومن المعروف أنه يبرع في تجسيد الأدوار التاريخية.بحسب رأيه، يُعتبر مجال صناعة الأفلام {أعظم شكل من الفنون في العالم وأكثره تأثيراً ولا يمكن أن يضاهيه أي مجال آخر. عند إنتاج فيلم بإتقان، لن يوازيه أي عمل آخر}. يعتبر فيلم The Revenant أكبر تحدٍ له حتى الآن وسيكون أعظم انتصار له إذا نجح.كانت حياة دي كابريو هادئة بشكل عام، باستثناء تجربتين كادتا توديان بحياته: لم يفتح حبل مظلة الباراشوت في إحدى المرات فهبط بسرعة إلى أن تدخّل مدرّبه على علو 5 آلاف قدم، وانفجر محرك الطائرة حين كان يسافر من نيويورك إلى موسكو لحضور مؤتمر من تنظيم فلاديمير بوتين لإنقاذ النمر السيبيري. عدا هذه اللحظات الصعبة، تمكن من تجاوز تحديات الحياة المعاصرة بسهولة.دي كابريو ابن هوليوود مع أنه يروي دوماً عن نشوئه في شوارع لوس أنجليس القاسية: {كنا أنا وأمي نعيش في منطقة تكثر فيها تجارة المخدرات والدعارة. كان الجو مرعباً هناك. كنت أتعرض للضرب في مناسبات كثيرة وأشاهد الناس يمارسون الجنس في الأزقة}. لكن منذ أن بدأ حياته على الشاشة في عمر الخامسة عشرة، يعيش ليوناردو في قفص ذهبي ساطع.الخروج من {فقاعة} هوليوودكان تصوير فيلم The Revenant فرصة للخروج من {فقاعة} هوليوود واختبار معدنه كإنسان: {حين تقرر تصوير فيلم في أقسى المناطق الشتوية وفي غابات بعيدة عن مظاهر الحضارة، لا مفر من أن يعكس الفيلم حياة مختلفة بحد ذاتها. أراد أليخاندرو أن يخوض تجربة غامرة وأظن أنه حقق هذا الهدف. يبدو العمل أقرب ما يكون إلى الفيلم الوثائقي ويجسد رحلة وجودية حقيقية. قد تكون القصة بسيطة ومباشرة، لكنها اتخذت بعداً أكثر تطرفاً وعمقاً مما كنا نظن من خلال التفاعل مع البيئة المحيطة}.يطرح هذا العمل القوي تحديات كثيرة. تظهر لحظات من الحنان بين الإنسان والطبيعة من جهة مقابل مشاهد عنيفة على نحو مريع من جهة أخرى، لا سيما المشهد الذي يتعرض فيه دي كابريو لهجوم وحشي من دب رمادي: {تعرض لقطات أليخاندرو مساحات الطبيعة الشاسعة وتركز في الوقت نفسه على خصائص الشخصيات. يمكن إنشاء رابط حميم مع العنف في هذا الفيلم بطريقة غير مسبوقة، وكأن مشاعر مختلفة تتملك المشاهدين وتوقظ جميع حواسهم. يمكن أن نشعر بإيقاع تنفّسهم}.تولى إيمانويل لوبيزكي الموهوب التصوير السينمائي. صُوّرت المشاهد في جبال الأرجنتين وكولومبيا البريطانية وألبيرتا وقد وجد دي كابريو نفسه في مكانٍ حرارته ثلاثين درجة تحت الصفر. إنها مغامرة جنونية ومؤثرة لكنها كانت ضرورية لطرح هذا الفيلم القيّم على مدار ساعة ونصف. كان دي كابريو يستعد لهذا المشروع وكأنه ملتزم بأداء مسرحي يومي، فيتدرب بجدية على المشاهد الخطيرة ويحضّر وجهه الذي بات يفتقر إلى معالم الوسامة التي عُرف بها. سنكون أمام نسخة شرسة وحيوية من هذا الممثل ويشبّهها مارتن سكورسيزي بالطاقة التي اكتشفها في روبرت دينيرو خلال السبعينات: {يعطيني ليوناردو العواطف في لحظات غير متوقعة... وهو يستطيع فعل ذلك على مر المشاهد المتلاحقة}.يظهر دي كابريو في تسعة أعشار الفيلم علماً أنه لا يتفوه بعبارات كثيرة ويقول معظمها حين يكون مصاباً لكنه يقدم أداءً مدهشاً، إذ يبدو كل تعبير على وجهه مدروساً (عينان جاحظتان، حاجبان عابسان، شفاه متورمة، رغوة في فمه...) وينجح في تغيير ملامحه الجميلة للتعبير عن الحزن والألم واليأس والرغبة في الانتقام.يتساءل دي كابريو: {كيف يمكن أن نعبّر عن العواطف ونجعل المشاهدين يفهمون صراع الإنسان أو رحلته من دون كلام؟ كان يجب أن نقوم بتخطيط جدي يرتكز على الأبحاث وقراءة الكتب لتعلم طريقة العيش على الجبال وكيفية نزع فرو الدببة وصنع السكاكين. وحين تفرض الطبيعة سيطرتها، يجب أن نتفاعل مع محيطنا تزامناً مع سرد قصة هذه الشخصية من دون استعمال الكلام. لقد تبنّيتُ هذه المقاربة وسررتُ لأنني لم أضطر إلى حفظ خمس صفحات من الحوار يومياً. استمتعتُ أيضاً بالوحدة في تلك الأجواء. كيف نتصرف حين لا يراقبنا أحد؟}. إنه سؤال وجيه بالنسبة إلى شخصٍ أمضى ثلاثين سنة من أصل أربعين وهو يمثل أمام الناس.نشاطات بيئيةفيما يبلغ دي كابريو ذروة نجاحه، ربما يتعلق أهم إرث سيتركه بنشاطاته البيئية وراء الكاميرا. تزامناً مع تصوير فيلم The Revenant، كان دي كابريو الراوي في فيلم Carbon الذي يقتصر على تسع دقائق ويتناول التغير المناخي وفي أول فيلم وثائقي مصغر من أصل أربعة ضمن سلسلة Green World Rising (نشوء العالم الأخضر). يقول في فيلم Carbon: {إذا لم تتحرك الحكومات الوطنية، يمكن أن يتحرك مجتمعك. ويمكن أن ننقل اقتصادنا في جميع البلدات والولايات إلى الطاقة المتجددة ونضمن مستقبلاً مستداماً}.لهذا الممثل تاريخ طويل في مجال دعم القضايا البيئية عبر مؤسسته غير الربحية. وقد وضع صوته على الفيلم الوثائقي The 11th Hour (الساعة الحادية عشرة) وأنتجه في عام 2007 وتعهد بتقديم 9.5 ملايين دولار للحفاظ على المحيطات في يونيو 2014. يقول دي كابريو: {كل من لا يصدق حقيقة التغير المناخي هو ديناصور حقيقي. يؤكد %99.99 من العلماء على حصوله. إذا كنتم لا تصدقون العلم، قد تكون الأرض مسطحة والجاذبية كذبة إذاً! أستغرب من استمرار هذا الجدل. يكفي أن ننظر إلى الأرقام. لا مجال للتشكيك}.هذه السنة، انضم دي كابريو إلى ألفَي شخص ثري و400 مؤسسة تستثمر في شركات الفحم والنفط والغاز. حصل ذلك بعد خطابه في قمة التغير المناخي في الأمم المتحدة في سبتمبر 2014. فقال أمام الوفود في ذلك اليوم: {لدينا كوكب واحد. لا بد من محاسبة البشر بسبب إمعانهم في تدمير منزلنا المشترك. تتوقف حماية مستقبلنا في هذا الكوكب على تطور الوعي لدى جنسنا البشري. نعيش أخطر اللحظات ويجب أن نوجه الرسائل بشكل عاجل. أدعو قادة العالم كي يحموا حياتنا لكنهم لا يتحركون. حان الوقت لمواجهة أكبر تحدٍّ لوجودنا على هذا الكوكب}.The Revenant وThe Crowded Roomلا شك في أن دي كابريو ترك بصمته في فيلم The Revenant. هل يمكن أن يمنحه هذا الأداء أخيراً جائزة أوسكار عن فئة أفضل ممثل ويرسخ مكانته بين الممثلين الوسيمين الذين يجيدون التمثيل؟ بعد أن ترشح للجائزة أربع مرات من دون أن يفوز، تشير أحدث التقديرات إلى تفوقه على إيدي ريدمان وجوني ديب وتوم هانكس ومايكل فاسبندر ومات ديمون.يقول دي كابريو بكل تواضع: {إذا نظرنا إلى مسيرة أي ممثل، لا مفر من اختيار بعض الأفلام العظيمة التي تطبع مسيرته وتستحق أن يشاهدها أولادنا وأحفادنا. كان فيلم The Revenant مختلفاً بالكامل عن جميع الأعمال التي شاركت فيها سابقاً. لكني أبلغ 41 عاماً فقط وما زلت في بداياتي}.سرت إشاعات هذه السنة مفادها أن دي كابريو بدأ يعزز روابطه مع أستراليا بعد أن كسب 17 مليون دولار (مبلغ ضئيل إذا كانت قيمته الحقيقية تصل إلى 300 مليون) للتعاون مع رفيقَيه القديمين سكورسيزي ودينيرو في {فيلم} من إنتاج {ستوديو سيتي} لصاحبه جيمس باركر. يتولى جويل شوماخر إخراج فيلمThe Crowded Room (الغرفة المزدحمة) حيث يؤدي دي كابريو دور بيلي ميليغان، أول شخص نجح في استعمال حجة الإصابة باضطراب الشخصية المتعدد في المحكمة. كانت إحدى شخصيات ميليغان الأربع وعشرين أسترالية، لذا يمكن أن نسمع اللكنة الأسترالية من دي كابريو. بعد فترة قصيرة، سيتعاون مجدداً مع سكورسيزي لأداء دور البطولة في فيلم The Devil in the White City (الشيطان في المدينة البيضاء) المقتبس من قصة إيريك لارسون الحقيقية عن مجنون يطارد معرض شيكاغو العالمي في عام 1893.يوضح دي كابريو: {لا أشارك في أي فيلم لمجرد أن أجرّب شخصية مختلفة. يمكن أن أمثل في عشرة أفلام متلاحقة عن أثرياء مجانين إذا كان المخرج بارعاً والسيناريو مميزاً. كانت شخصياتي في أفلام Aviator وGatsby و The Wolf of Wall Street (ذئب وول ستريت) مختلفة جداً لكنها تعبّر عن القيم نفسها. جئت من خلفية متواضعة وتقبّلني العالم منذ مرحلة مبكرة وتسنى لي أن أتعرف إلى مظاهر الترف في حياة الأثرياء. فهمتُ سريعاً حقيقة الوضع داخل هذا العالم وخارجه. لذا لا أهتم اليوم إلا بإيجاد عمل فني عظيم كي أشارك فيه في الفترة المقبلة. الأمر المؤكد أن البارع في مجاله يصل إلى القمة}. ينطبق هذا المبدأ على ليوناردو طبعاً!
توابل
ليوناردو دي كابريو... التمثيل سلوك «دموي»
27-02-2016