لا يوجد عقل عربي يختلف عن غيره من العقول البشرية، فالعقل ملكة إنسانية مشتركة، وهو أعدل الأشياء قسمة بين البشر (مقولة ديكارت الشهيرة)، فلا فرق بين عقل عربي وآخر غربي، لكن توجد "عقلية عربية" تختلف عن غيرها من العقليات، تبعاً لاختلاف "الثقافات" التي تصوغها، لكن العقليات تتطور، فالعقلية العربية في الجاهلية، غيرها في الإسلام، وهي في عصر العولمة غيرها في العصور السابقة، "العقلية العربية" محكومة بثقافتها التاريخية الموروثة متمثلة في مجموعة التقاليد والأعراف والعادات والقيم الاجتماعية والأفكار والتصورات الممتدة منذ الجاهلية، وثقافة أي مجتمع، هي عقله، ونحن – الأفراد – نتشرب هذه الثقافة من البيئة المحيطة "تلقائياً" منذ التنشئة الأولى عبر عملية "البرمجة الثقافية" التي تحكم تفكيرنا وتشكل تصوراتنا لأنفسنا وللآخرين، كما تحدد طريقة تفكيرنا، كما أن العقل يحتله "الأسبق" إليه بحسب تعبير المفكر السعودي إبراهيم البليهي، والأسبق إلى العقل العربي "جملة من الموروثات الثقافية" التي تحتل الجزء الأكبر فيه، ولاشك أن هذه الموروثات منها جوانب ايجابية فاعلة، وأخرى سلبية معطلة لطاقات العقلية العربية، وفي تصوري أنها تشكل إعاقات فكرية تشل فعالية العقل العربي في النهوض بمجتمعاته، ومن أبرزها:

Ad

1. وهم الماضي المجيد: مازالت العقلية العربية تتغنى بماضيها على حساب حاضرها ومستقبلها، مازال القدماء يحكموننا – مناهجنا الدراسية ومنابرنا الدينية – مازلنا نلتمس الحلول منهم لحاضرنا، نعيد إنتاج مقولاتهم ونتصارع حولها! مازالت العقلية العربية، أسيرة الماضي المجيد، لا تستطيع التحرر من قبضته، مازالت أعناقنا ملوية إلى الوراء.

2. وهم "أعلوية" الرجل على المرأة: وهو وهم ممتد من الجاهلية حيث كان الكر والفر والمغنم من شأن الرجل وحده، لكن هذا الوهم امتد إلى يومنا، مع أن المرأة باتت تعمل وتشارك في المغنم! مازالت العقلية العربية – بالرغم من انفتاحها على الحضارة المعاصرة – أسيرة النظرة الذكورية المنتقصة من دور المرأة في الحياة العامة، تؤمن بفرض الوصاية على المرأة، خوفاً عليها أو منها!

3. وهم تملُّك الحقيقة المطلقة: كان هو السمة الغالبة في التاريخ الإسلامي لدى كل الفرق الإسلامية في منازعاتها حول ما هي "الفرقة الناجية" التي تدخل الجنة، دون غيرها من الفرق؟! ومازالت العقلية السائدة لدى قطاع كبير من العرب والمسلمين يتملكها هذا الوهم الاعتقادي، والذي يشكل اليوم "الخلفية السوداء" وراء جميع الصراعات الدموية في الساحة، كما كان هذا "الوهم" المرتكز الأساسي لسياسات "الإقصاء" بكل أشكاله السياسية والدينية والمذهبية، وهو مصدر "ثقافة الكراهية" للآخر، وكان من إفرازاته أن العقلية العربية أصبحت تضيق بكل أشكال النقد الذاتي والاعتراف بالخطأ، وتسارع إلى إطلاق تهم الخيانة والتكفير... هذا عن الأوهام، أما الهواجس فمنها: 1. هاجس التآمر العالمي: حيث يحتل هذا الهاجس، المساحة العظمى من تفكيرنا، فما من حدث في الساحة إلا والتفسير التآمري هو الأكثر رواجاً وقبولاً فيه، ومازال قطاع كبير – جمهوراً ونخباً – يرى أن ضرب برجي أميركا، مؤامرة أميركية لاحتلال أفغانستان وشن حرب على الإسلام تحت مسمى "الحرب على الإرهاب" ومازالت "العقلية العربية" تتصور العالم لا عمل له إلا التآمر على العرب والمسلمين وتقسيمهم والاستيلاء على ثرواتهم واقتلاع هويتهم ومنع وحدتهم ونهوضهم! مازال "الفكر العربي" يؤمن بأننا "أمة مستهدفة" وأننا ضحايا مخططات لقوى كبرى! وهذا الهاجس ليس وليد الأحداث الحاضرة، بل يمتد إلى "الفتنة الكبرى" حيث حملنا مسؤوليتها اليهودي "ابن سبأ" وهذا المنهج يخالف منهج الإسلام الذي يحملنا مسؤولية أعمالنا وأوضاعنا "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ"، وقوله تعالى "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ".

2. هاجس الغزو الفكري: الذي يستهدف ديننا وقيمنا وثقافتنا وهويتنا، من أكثر الهواجس التي تشل العقلية العربية، مقولات "الغزو الفكري" التي عمرها أكثر من قرن، تغيرت فيه الأحوال والأوضاع والأنظمة العربية، ومازالت هذه العقلية متوجسة منها! وفي تصوري أن الخطوة الأولى في تحرير العقلية العربية، إعادة الثقة بالذات وبالثوابت الدينية والقومية والثقافية، ترى ما الذي يفعله بك من يغزوك فكرياً أو ثقافياً؟! إنه يقدم لك كتاباً أو صحيفة أو فيلماً أو معلومة أو رأياً أو فكراً أو نظاماً أو تقنية، ولك في النهاية أن تقبل أو ترفض؟ فأنت صاحب القرار، ونحن في عصر سقطت فيه الحواجز بين الشعوب، فلا مبرر للفزع من الغزو الثقافي، ولا مسوغ لزرع الكراهية في نفوس أبنائنا تجاه حضارة الغرب، وعسكرة مجتمعاتنا، بحجة أن "حصوننا مهددة من الداخل"، لقد كان الأجدر بالغرب أن يخاف من غزونا الديني لمجتمعاتهم عبر المراكز الإسلامية والدعاة في عقر دارهم، ومع ذلك هم واثقون بأنفسهم وبحضارتهم، لا يفزعون كما نفزع من هواجس الغزو، والتي هي في النهاية، هواجس العجز والفشل، علينا أن ندرك أن بلاءنا نابع من داخلنا، هذا الغزو الإرهابي المدمر للإنسان والأوطان والذي غفلنا عنه طويلاً بحجة مقاومة الغزو الخارجي!

* كاتب قطري