لندن

عزيزتي هيلين:

Ad

لقد ساءت حالتي الصحيّة كثيراً في الأسابيع الماضية، وقد أخبرني الطبيب أنّ السرطان احتلّ ما تبقّى من مساحات في صدري، لم أستغرب الأمر لأنّني منذ فترة بتّ أترنّح تحت عبء جسدي المتهالك الذي تحوّل حملاً ثقيلاً على روحي التوّاقة للخلاص منه. وربّما لا تتصوّرين كابنة تحبّ أمّها مدى فرحتي وسعادتي باقتراب النهاية التي تضع حدًّا لألمي. وكنت قد طلبت مراراً من الطبيب التوقّف عن جرعات العلاج، إلاّ أنّه أصرّ على متابعة مهمّته كطبيب.

ابنتي،

من على حافّة السقوط في المجهول، أكتب إليك وكلّي شعور بدنوّ أجلي في الفترة القريبة، متمنّية أن يكون رحيلي هادئاً لا يعكر صفو حياتك.

أعرف كم أتعبتك بمرضي وأنيني الدائم طيلة السنوات الخمس الأخيرة، لدرجة بتّ أنزعج منهما وأنا صاحبة الألم. سأكون سعيدة عندما أغلق عينيّ على أبد الخلود، لذا لا أريدك أن تحزني طويلاً ولا لحياتك أن تتوقّف بسبب موتي.

وكم وددت مراراً أن أتحدّث إليك، لكنّي لم أمتلك الشجاعة الكافية التي تمكّنني من الجلوس إليك ومكاشفتك ببعض الأمور، لذا قرّرت ترك رسالتي هذه.

ابنتي الغالية،

تركت باسمك مبلغ عشرة ملايين يورو في البنك، وباقي رصيدي تبرّعت به لصالح مراكز أبحاث السرطان بلندن. لا تنسي كما أوصيتك أن تدفنيني بجانب قبر زوجي سميث في مقبرة هايجيت. الأمر الآخر الذي أودّ مصارحتك به هو المهمّ بالنسبة إليك، بخصوص سؤالك الدائم عن والدك مجهول الهويّة. أكرّر اعتذاري منك عن هروبي الدائم طيلة السنوات الماضية من الموضوع. ولأنّني لا أريد أن يدفن معي هذا السرّ إلى الأبد، أودّ البوح به، بعد أن خبّأته عنك طويلاً.

في شتاء عام 1975، زرت مدينة حلب في سوريا ضمن وفد طلاّبي من جامعة لندن. تخلّيت عن العودة إلى لندن مع المجموعة وأقمت في فندق بارون لأسبوعين إضافيين، تحديداً في غرفة تقع في الزاوية اليمنى من الطابق العلوي، هذه الغرفة التي تعرّفت فيها إلى والدك المجهول، وكنتِ ثمرة ذاك الحبّ العابر. وكما علمت من مطالعاتي الأخيرة، فإنّ كلّ شيء في هذا الفندق بقي على حاله. يمكنك يوماً ما إن شئتِ، زيارة حلب والإقامة في الغرفة نفسها من الفندق حيث أقمت.

ابحثي في سجلاّت الزوّار عن ثلاثة أسماء هي في الحقيقة لثلاثة أصدقاء. الأوّل هو إسماعيل آغا وكان ملاّك أراض زراعيّة، والثاني بكري أفندي أعتقد أنّه تاجر زيت، أمّا الثالث إسحق فلا تسعفني الذاكرة بتذكّر عمله. أحد هؤلاء الثلاثة هو والدك.

عزيزتي هيلين

انتبهي إلى نفسك، وزوري قبري كلّما شعرت أنّك بحاجة إلى أن تبوحي بشيء ما، وأنا سأسمعك من عالمي البعيد.

والدتك كاترين

أوخر يناير 2011

بهدوء أعادت هيلين الوصيّة إلى داخل المظروف وأودعتها جوف حقيبة يدها. تنهّدت بقوّة، ثم ارتمت على الكنبة القريبة منها، قبالة صورة والدتها الجالسة على كرسي معرّق بزخارف ذهبيّة، أمام زوجها الملياردير سميث الذي رحل باكراً بحادث سير مروّع على الطريق السريعة بين لندن وويمبلدون، بعيد زواجهما بعشر سنوات أو أكثر قليلاً. سميث لم يكن بالنسبة إلى والدتها رجلاً فحسب، وإنّما جرّة فخّار عملاقة متخمة بالكنوز. كانت هيلين دائمة التهرّب منه ومن دعوته للسهر وكان هو دائم الإلحاح عليها لمرافقتهما. وكثيراً ما أمسكها من يدها وأجبرها بمزيج من المزاح والخبث على الذهاب معهما أيّام العطل والأعياد، حتى أنّه في إحدى المرّات قال لها بالحرف الواحد:

ألا ترغبيتن برؤية والدتك وهي ترقص السلو...؟

يقول ذلك ويضحك ضحكة ماكرة تنمّ عن دهاء رجل استطاع خلال عشرين سنة أن يتحوّل من عامل صغير في معمل لصناعة الأقمشة، إلى منتج كبير يُحسب له ألف حساب في بريطانيا، وامتدّ كأخطبوط عملاق إلى عالم الدعاية والإعلان فبنى مؤسّسة صارت لها أذرع في كلّ المدن البريطانيّة.

أوكل سميث إلى كاترين إدارة شؤونه ومتابعة أعماله، إلى أن أقعدها المرض، فاضطر إلى بيع مؤسّسة الدعاية إلى أحد أثرياء مدينة مانشستر بعدما يئس من إقناع هيلين بتولّي قيادتها، خصوصاً وأنّ دراستها للفلسفة خلقت لديها نفوراً كبيراً من عالم المال والتجارة.

مسحت هيلين دمعتين صغيرتين خطّتا طريقهما رغماً عنها، فتحت حقيبتها وأخرجت الوصيّة من جديد، أشعلت سيجارة وتأمّلت كلّ حرف فيها بدت كمحقّق جنائي يتأكّد من صاحبة الخطّ، مع يقينها أنّها كتبت بقلم الباركر الذهبي الذي أهداه سميث لوالدتها في عيد ميلادها الخمسين، فكانت لا تكتب أشياءها المهمّة إلاّ بذلك القلم. أطفأت هيلين سيجارتها وتوجّهت إلى غرفة نوم كاترين، وقفت للحظات أمام الباب، لملمت كلّ جسارتها، وأدارت المقبض المعدني.

الغرفة غارقة في فوضاها. اللحاف مكوّم على الأرض كجثّة هامدة، كأس الماء نصف ملآنة على الطرابيزة الصغيرة، المخدّة المقعّرة مكان رأسها الصغير مرميّة في منتصف السرير، على الجهة اليمنى مزهريّة تدلّت بتلات أزاهيرها الملوّنة من حوافّها، وقد ارتسم في منتصفها خطّ كلسي أبيض بعدما جفّ ماؤها، وقريباً من الحافّة قلم الباركر الذهبي مغلق نصف إغلاقة.

دارت هيلين حول السرير نصف دورة، التقطت القلم فسقط الغطاء وتدحرج على رخام الغرفة، تأمّلت ريشته وقد تيبّس الحبر الأزرق على نصلها الذهبي، قبل أن تعيد إليه الغطاء وتودعه حقيبتها، متّجهة إلى الباب الرئيسي تهمّ بالخروج. رنّ الهاتف فأغلقت الباب وعادت إلى حيث الهاتف.

ألو؟ أهلاً ليزا.. أنا بخير... لا مشكلة، سأنتظرك فما زال لديّ الكثير من الوقت...

وضعت سمّاعة الهاتف وأسندت مرفقيها على الطاولة الواطئة في وسط الصالون. فكّرت بزيارة ليزا المفاجئة. منذ عدّة أشهر لم تتصل! ها هي الآن تعاود الاتّصال بها، تبحث عنها من جديد، فمن نبرة صوتها المسترخي أدركت هيلين أنّ ليزا بحاجة إليها...

إنّها لغة بلا مفردات تعتمد على إيحاء الإيحاء. فكلّما كانت مستسلمة هادئة، كانت كبحر هادئ ينذر بعواصف هوجاء لا تنتهي ما لم ترم ما في جوفها من حيتان وأسماك وطحالب. إنّه شكل من أشكال الانتحار، هكذا كانت ليزا تصف نفسها، قبل أن تدخل في دوّامة الصمت، فلا تعود تتحدّث إلاّ نادراً، بقدر ما تتأمّل ما يجري من حولها، مكتفية بهزّ رأسها أو بالتعليق بكلمة أو كلمتين.

رنّ الجرس. بهدوء فتحت هيلين الباب فظهر وجه ليزا كقرص من زهر عبّاد الشمس، رطب وليّن من ضباب لندن.

أهلاً ليزا... تفضّلي...

جلست ليزا وقد بدا عليها الارتباك، إذ شعرت أنّ حديثاً غير عادي قد مرّ مروراً ثقيلاً مخلّفاً وراءه رائحة غريبة عبّأت خياشيم أنفها الصغير.

هيلين، هل ثمّة ما حدث؟

أمّي...

التفتت ليزا إلى غرفة كاترين.

لا تقولي لي إنّها...

هزّت هيلين برأسها مؤكّدة صحّة تخمينها، قامت ليزا ومشت إلى باب غرفة كاتريت بحذر وكأنّها لا تريد إيقاظ الحقيقة الكامنة وراء الصمت الذي يسود أرجاء المنزل. ما إن فتحته، حتى لفحتها رائحة رطوبة الموت. تأمّلت السرير الفارغ وعلب الأدوية المبعثرة على الرفّ المجاور له، نادت بصوت مخنوق قبل أن ترتمي على طرف السرير، وأجهشت بالبكاء..

يا لك من قاسية يا هيلين لماذا لم تخبريني برحيلها؟ لماذا... إنّها أميّ أيضاً يا هيلين... أميّ... أميّ.

عبر فتحة الباب الذي راح ينسدل كستارة خشبيّة على المشهد، أخذت هيلين تراقب ليزا وهي تتلوّى في السرير كعصفور صغير ملسوع بلدغة أفعى، إلى أن أطبق الباب تيّار الهواء الجارف الذي صفقه بقوّة. بقيت هيلين مكانها وراحت تتلهّى بمراقبة دوائر الدخان التي راحت تتصاعد من لفافة التبغ بين أصبعها.