ذاك المساء كنتُ أبحث وابنتي في أحد المولات التجارية عن فيلم نسلّي فيه ما تبقى من الوقت. وكالعادة تنظر في قائمة الأفلام المتاحة فلا تجد ما يشفي غليلك أو يشعرك بمواكبة ما يُعرض في دور السينما العالمية في العالم الحي. وفيما نبحث عن ضالتنا ضمن قائمة الأفلام المتاحة وقع بصري على إعلان بالأبيض والأسود عن الفيلم الكويتي "كان رفيجي". وبعد مشاورات قصيرة قررنا اختيار هذا الفيلم.

Ad

أول مفاجأة لي أن مقاعد قاعة العرض كانت محجوزة بالكامل، ولم يتبق غير مقعدين أخيرين في صفين مفترقين، كانا فرصتنا الأخيرة لمشاهدة الفيلم في تلك الأمسية.

ينطلق بنا شريط الفيلم من مشهد تشييع جثمان في المقبرة، عائداً بنا إلى سواحل البحر، ثم ماراً عبر رؤية فوقية لمدينة الكويت وضواحيها وأبراجها وشوارعها وزوايا بيوتها، حيث تندسّ الحكايات وتتناثر، وحيث تخرج لك صور الحياة التي تألفها وتعرفها حق المعرفة.

لم تكن قصة الأصدقاء الثلاثة حكاية ميلودرامية أو رواية فنتازية ترهق المخيلة، بقدر ما كانت قصة قريبة وحميمة ومسرفة في اعتياديتها، وهذا سر جمالها الآسر والغامض. حكاية كأنك تعرفها وتعرف أبطالها، وتراهم كل يوم في الشوارع والمقاهي واللقاءات الأسرية وأروقة المكاتب وبيوت الجيران.

بل لعل الحكاية بحد ذاتها ليست ذات قيمة، وإنما القيمة تكمن في أسلوب المعالجة والرؤية الفنية وجمالية الإخراج، التي استطاعت مجتمعة أن تلمس في المُشاهد شيئاً ما وتجعله ملتصقاً بمقعده لمئة دقيقة هي مدة عرض الفيلم.

ثلاثة أصدقاء جمعتهم الجيرة والصداقة ومقاعد الدراسة صغاراً، ثم فرقتهم دروب الحياة ومشاغلها كباراً، ليعودوا فيلتقوا بين الفينة والأخرى بين ثقوب المصادفات العابرة، ليرمموا نتفاً من ذكريات ومواقف لن تسعفهم طويلاً في صنع حياة أخرى بذات الصلابة والالتحام.

وهنا تلعب تقنية "الفلاش باك" دوراً في تعريف المُشاهد بملامح الطفولة الغاربة، والتي كانت تعجن الأصدقاء الثلاثة في بوتقة واحدة من التشابه والتناسخ، على عادة السمة الدارجة في الطفولة، حيث تقل الاختلافات الشخصية أو تكاد تنعدم.

ولكن ما ان يشب الصغار عن الطوق حتى يبدأ التمايز في الشخصية والاختلاف في اختيار طرق العيش وفلسفة الحياة.

"محسن" اختار أن يساير الملمح الشعبي السهل في الحياة، وأن يعيش على هامشها خفيفاً أعزب يقضّي فراغاته ما بين "الجاخور" و"البر" و"الديوانية"، وملاحقة المعاملات الحكومية، وتقديم الخدمات للأهل حين تستدعي الحاجة.

"خالد" المتزوج اختار حياة أكثر جدية وكدحاً، يحرص على الإتقان والتميّز لدرجة الإدمان على العمل والسهو عن الواجبات الأسرية، مع محاولة أن يجعل للأصدقاء فسحة صغيرة من الوقت إذا أُجبر على ذلك.

أما "حمد" الذي بدأ بذرة فنان وعازف كمان، فسرعان ما تجرفه المشاكل الأسرية وفقدان الأب صغيراً إلى خانة الضياع وفقدان الأمل والعيش على هامش حياة فارغة، مع هوس في تجريب الملذات الوقتية الصاخبة: "حفلات، أسفار عبثية، إدمان مخدرات"، مما يجرفه إلى مزيد من الوحدة والكآبة والإحساس بالفراغ والفقد.

يلتقي "حمد" مصادفة بخالد ثم بمحسن؛ صديقيّ الطفولة القديمة فيتشبث بهما، محاولاً اختراق عالمها وحياتهما، غير مدرك صعوبة إعادة الزمن وردم الاختلافات الشاسعة بعد أن اختار كل منهم طريقه وأسلوب حياته. يموت "حمد" بجرعة مخدر زائدة، ليلتقي الأصدقاء الثلاثة – ربما للمرة الأخيرة – في المقبرة، حيث تتجدد الذكريات ممزوجة بنتف من الحسرات والندم وتبكيت الذات.

إلى جانب الحكاية كان الفيلم يطرح وجوهاً عدة للمجتمع وظواهره السلبية خاصة، ولكن بصورة إشارات وإيحاءات تبدو مدغمة في سياق الفيلم، كالتسيّب الوظيفي، والواسطة، والتباهي بالمظاهر، وغياب الرجل في حياة الأسرة، وانحسار صورة المرأة في إطار الاستكانة والملبس والمأكل والفراغ وانتظار الزوج... إلخ. ولكن بعض تلك الإشارات جاءت هامشية وزائدة عن الحاجة، كالتلميح إلى مشكلة العمالة السائبة مثلاً وتخصيص مشهد لا مناسبة له في الحكاية حول ذلك.

وأعتقد أنه بسبب الشعور العام بوهن الحياة في سياق الفيلم، جاءت الإضاءة معتمة حدّ الضجر. فالمُشاهد يدرك مسألة أن تأتي الصورة معتمة في مواقع التصوير الداخلية، ولكن أن تسود العتمة حتى في المشاهد الخارجية كساحل البحر ومشاهد المدينة وحركة الشوارع، وفي بلد ليس فيه حضور أكثر إبهاراً من الشمس! فذلك تساؤل يظل مطروحاً، راجين ألا تكون المسألة من ضمن أخطاء العرض أو علة في الكاميرا أو فشل تقني.

فيلم "كان رفيجي" رغم ذلك، يستحق أن يُكتَب عنه من زوايا أخرى عديدة، فهو حافل بمزيج من الضحك والبكاء، وقادر أن يمسّ أكثر المشاعر الإنسانية عمقاً ورهافة. والفيلم من تمثيل خالد البريكي وفيصل العميري وعبدالمحسن القفاص وفاطمة الصفي ومرام البلوشي، ومن تأليف يعرب بورحمة وإخراج أحمد الخلف.