كانت ثورة أكتوبر البلشفية ثمرة من ثمار الثورة الثقافية الروسية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. نستطيع أن نلاحق ونتأمل حركة الروح والعقل المضطربين في عدد من روايات دوستويفسكي، وخاصة "الشياطين"، و"الأخوة كرامازوف". كانت هناك ثورة مضطربة في الفكر، والفن، والانتساب الحضاري. ثورة تتطلع بلون دام، وفق الطبع الروسي، إلى التغيير، والتجديد، وتشترط هدم الثابت، وحرق القديم من جذوره. طاقة عبقرية لا تريد أن تتوقف لحظة لتتأمل معيار الصحة والخطأ، والخير والشر، والممكن وغير الممكن. طاقة تجدها لدى "العدميين"، وعند لينين، بليخانوف وباكونين في حقل الفكر الفلسفي، ماياكوفسكي في الشعر، وآيزنشتاين في السينما ورودتشينكو وداتلِن في الرسم... باتجاه عبادة "المتوقع"، "والمستقبلي".

Ad

وإذا كانت التطلعات الفنية والأدبية رحمة في توسيع أفق الإنسان الروحي، فإن التطلعات الفلسفية، في حقل السياسة خاصة، كارثة في حرمان الانسان من كل أفق.

    في غاليري "التيْت مودرن" معرض استعادي ضخم للرسام كازِمير مالَفيتش (1879-1935)، الذي يقف في طليعة فناني تلك المرحلة المتعطشة لحرق الجذور. والمعرض هو الثاني في لندن بعد ثمانين عاماً. المعرض، شأن كل نقاد ومؤرخي الفن، يرى في لوحته "المربع الأسود" (1915) منطلقاً لطليعية الفن الحديث في العالم. بالرغم من أن اللوحة، والكثير من أعمال مالَفيتش، ظلت في أقبية الرقابة التحريمية التي فرضتها مرحلة ستالين، ولم ترَ النور إلا في 1980.

كان مالّفيتش من عائلة بولندية أقامت في موسكو، بعد أن هجرت مدينتها "كييف". بدأ يدرس الرسم في موسكو في أواسط العشرينات من عمره. لوحاته المبكرة في قاعة المعرض الأولى لا تنم عن قابلية استثنائية في رسم البورتريه أو المشهد الطبيعي. ولعل في هذا الضعف تكمن ولادة التوق للتجريد، وتجاوز ضوابط فن الرسم. في لوحات هذه المرحلة تجد محاكاة فان كوخ، ماتيس، سيزان وسورات واضحة.

ولكنه نَضج في الثلاثين، متأثراً بالتيارات الطليعية في الغرب، وميالاً إلى الطابع الروسي الفلاحي والديني. ثم سرعان ما اكتشف في داخله هوى المدرسة "المستقبلية"، التي استيقظت على يد الإيطالي "مارينَتّي"، و"التكعيبية" على يد بيكاسو وبراك. ومنهما ولّد أسلوباً خاصاً به أطلق عليه اسم "المستقعيبية" المولّد من المدرستين. ثم سرعان ما قفز منه إلى التجريد الهندسي، والتشظيات الملونة المنطلقة أبداً إلى الأفق. وأطلق على تجربته اسم Suprematism، التي اعتمدت الأشكال الهندسية بصورة أساسية. والمصطلح يشير في معناه إلى الفن التجريدي الذي يعتمد على "تفوق المشاعر الفنية الخالصة"، على حد تعبيره هو. فحركته الرائدة هذه تؤمن بخفض أقصى للوحة إلى حد اللون والشكل الخالصين. فاللوحات لديه ليست صوراً، لأنها لا تصف شيئاً، ولا تدل على شيء، وتقاوم كلَّ التقاليد الجمالية. إنها تنطلق حرةً كالثورة ذاتها.

هذا التوجه اللاعقلاني يليق، رغم مخاطره بالفن البصري. ولكنه يصير معولاً كاسراً في فنون الكلام، وفي الفكر الفلسفي السياسي. وهذا ما حدث في ثورة أكتوبر عام 1917. أي بعد رسم "المربع الأسود" بسنتين فقط. لقد كانت الثورة في الفن لدى مالَفتش عبثاً صحياً حلواً. ولكنها تحولت في الفعل السياسي على يد لينين وتروتسكي وستالين مخاضة دماء.

لوحة "المربع الأسود" عبارة عن مربع باللون الأسود، ولكنه أسود نابض بفعل ضربات ملحّة للفرشاة، يتوسط خلفية بيضاء نابضة هي الأخرى. أعادها باللون الأحمر، ثم سرعان ما أصبحت، بفعل طاقة تحديها آنذاك، أيقونة النزعات الجديدة في الفن.

    في برنامج أعدته المعمارية الشهيرة زُها حديد للقناة التلفزيونية الرابعة، بمناسبة هذا المعرض، أوضحت مقدار تأثرها المعماري بلوحات ومنحوتات مالَفيتش. فقد أسرها هذا التفجر باتجاه الأفق، وكأن الأشياء تفلت بغتةً من أسر الجاذبية الأرضية، في الوقت التي تعتمد اللوحة والنحت والعمارة عادة على مركز الثقل في القاعدة الراسخة بفعل الجاذبية. وعرضت عدداً من سكيتشات أعمالها المعمارية تقارنها بمنحوتات هندسية لمالَفتش، تبدو الكتل الملونة المتفاوتة الحجم فيها مستطيلةً بفعل اندفاعها إلى الأفق.