تُنشر كل يوم دراسات جديدة تربط صحتنا النفسية بصحتنا الجسدية. فيبدو أن مزاجنا أو حالتنا العقلية (الإيجابية أو السلبية أو اللامبالية) يؤثران في خطر الإصابة بالمرض أو حتى الموت بالتأكيد.

Ad

على سبيل المثال، أفادت إحدى الدراسات الشهر الماضي أن الصحة القلبية الوعائية تكون أفضل بكثير في حالة مَن يؤكدون أنهم أكثر سعادة. وثمة تفسير واضح لهذه الظاهرة: يكون الأشخاص الأكثر سعادة أكثر ميلاً أيضاً إلى اتباع سلوك صحي (التمرن وتناول الطعام الصحي)، ما يقود إلى صحة قلبية أفضل. صحيح أن هذه العلاقة قد تشكّل توضيحاً قوياً، إلا أن المسألة تبدو أكثر عمقاً.

هل تُعتبر تركيبة الأشخاص {السعداء} مختلفة عن سائر الناس؟ على سبيل المثال، تبدو تركيبتهم الفيزيولوجية مختلفة عمن يكونون أقل سعادة، مع معدلات أدنى من هرمون الإجهاد، الكورتيزول، تراجع مؤشرات الالتهاب الحيوية، وحتى تبدل في وصلات الدماغ. وقد تجعل هذه الاختلافات كافة الناس السعداء أكثر قدرة على التعاطي مع الحوادث المؤسفة التي تضعها الحياة في طريقهم، وأقل ميلاً إلى الشعور بالإجهاد الذي يؤثر سلباً في حالة الجميع الصحية. إذاً، تشكل العلاقة بين السعادة والصحة درباً ذا اتجاهين على أقل تقدير.

ولكن ما هي السعادة أساساً؟ هل تقوم على السعي وراء نشاطات تمنحنا شعوراً جيداً، مثل شراء سيارة أحلامنا أو الخروج لتناول وجبة عشاء لذيذة، أم أن لها علاقة بإحساس أعمق من الرضا الشخصي خلال مراحل الحياة المختلفة؟

قد يشكل هذا السؤال جوهر هذه المسألة. فقد يكون لنوع السعادة الذي تعيشه أو تجد في أثره التأثير الأكبر في صحتك، حتى إنه قد يكون الأساس الذي يحدد ماهيتك. صحيح أن ما زال أمامنا الكثير لنتعلمه عن طريقة تأثير عقولنا في صحتنا الجسدية، ولكن إليك ما نعرفه حتى اليوم عن هذه العلاقة.

تعريف السعادة

كما يدرك معظم الناس على الأرجح، ثمة أنواع مختلفة من {السعادة}. فثمة سعادة نحصل عليها من شراء جهاز iPad جديد وسعادة نشعر بها بعد أن نحقق إنجازاً في العمل يسمح لنا بشراء هذا الجهاز. وقد حاول الباحثون تحديد هذا الاختلاف الأساسي، واصفين شكلين مختلفين من السعادة.

ترتبط السعادة {التلذذية} بالمتعة والحصول على اكتفاء آني، إذا جاز التعبير. إذاً، ترتكز هذه السعادة على كيفية شعورك بالفرح واختبار مشاعر مثل الحماسة، والإثارة، والاهتمام.

في المقابل، ترتبط سعادة الإنسان العامة العميقة بالشعور بالرضا حيال الحياة بمعناها الأوسع. ترتكز هذه السعادة على {إبراز الإنسان إمكاناته وامتلاكه هدفاً في الحياة}، حسبما توضح جوليا بويم، التي تدرس العلاقة بين السعادة والصحة في هارفارد. فكم تشعر أنك مستقل وتتمتع باكتفاء ذاتي؟ كم تهتم بنموك الشخصي، طبيعة علاقاتك مع الآخرين، أو ما إذا كنت تملك هدفاً عميقاً في الحياة أو تتحلى بدرجة عالية من قبول الذات؟ تشكل هذه بعض المتغيرات التي يحاول الباحثون قياسها للحصول على فكرة واضحة عما إذا كان الإنسان ينعم بالسعادة العامة العميقة.

درس بعض العلماء شكلَي السعادة هذين في المختبر ولاحظا بعض الاختلافات المهمة. فقد أظهر بحث في جامعة ويسكونسون أن الناس الذين ينعمون بمقدار أكبر من السعادة العامة العميقة يتمتعون بمؤشرات التهاب حيوية أدنى، مثل الإنترلوكن-6. وتذكر الباحثة كارول ريف أن هذه المؤشرات الحيوية ترتبط بعدد من المشاكل الصحية، مثل المتلازمة الأيضية، الداء السكري، والأمراض القلبية الوعائية. لذلك من الممكن لمستويات أدنى منها أن تقدم فوائد وقائية. كذلك لاحظت ريف أن التمتع بشبكة دعم اجتماعي أقوى (جزء لا يتجزأ من الاكتفاء الطويل الأمد في الحياة) يرتبط بمستويات أدنى من المؤشرات الحيوية ذاتها.

كذلك قد تسهم السعادة العامة العميقة (أو ما ندعوه أيضاً الاكتفاء الداخلي أو الشخصي) في ترابط الدماغ بطريقة مختلفة. أما السعادة التلذذية أو القصيرة الأمد، فتتعلق بنوع السلوك {الذي يشعرك بالفرح}، والذي ينشط {دارات المكافأة} في الدماغ التي تعتمد على الناقل العصبي الدوبامين. وتُعتبر هذه المناطق مهمة أيضاً في الإدمان. وهذا منطقي بالتأكيد لأن إرضاء رغبة إدمانية يمثل الشكل الأبرز من أشكال السعادة (التلذذية) القصيرة الأمد.

في المقابل، عندما يواجه مَن يشعرون بسعادة أعمق (يتمتعون بالسعادة العميقة الطويلة الأمد) حافزاً سلبياً، يختبرون نشاطاً أكبر في القشرة الجبهية الأمامية من الدماغ، التي تتحكم في التخطيط التنفيذي أو التفكير الأكثر تعقيداً. بالإضافة إلى ذلك، يتراجع النشاط في المناطق {السفلى} من دماغهم، مثل اللوزة الدماغية، مركز ردود فعلنا تجاه الإجهاد والخوف. كذلك يعمل مَن ينعمون بالسعادة العامة العميقة ببطء أكبر على تقييم الحوادث السلبية على أنها كذلك، ما يعني أنهم أقل عرضة {للهلع} بسبب مشاكل الحياة الكثيرة.

هل للتعريف أهمية؟

لا يدعم بعض الباحثين الحاجة إلى الفصل بين المفهومين، ويعتقدون أن تعريفاً واحداً كاف. توضح بويم أنها تفضل مصطلح {الخير النفسي الإيجابي} بدل السعادة العامة العميقة لأن هذا المصطلح، في رأيها، {يشمل مجموعة أوسع من المصطلحات، بما فيها السعادة، الهدف في الحياة، التفاؤل، الشعور بالاكتفاء في الحياة... يمتاز هذا {الخير} بمشاعر وأفكار وتوقعات إيجابية يملكها الإنسان عن حياته. إذاً، يُعتبر الخير النفسي الإيجابي أساساً مؤشراً إلى حالة الإنسان النفسية التي تتخطى خلوه من أي مرض أو علة، مثل الكآبة أو القلق}.

قد لا يكون تعريف السعادة كتلذذية أو عامة عميقة على القدر الكبير من الأهمية. لكن الواضح أن الإحساس {بشعور جيد} الذي نميل إلى اعتباره سعادة قد يكون مختلفاً عما يعرّفه الباحثون كسعادة: نوع من الرضا الطويل الأمد ينعكس على خيرنا العقلي والجسدي. وإذا عدلت مفهومك عن السعادة ليشمل تركيزاً أكبر على أوجهها الطويلة الأمد، تتجهه بالتأكيد نحو سعادة أكبر باتخاذ فحسب خطوة مماثلة.

أكثر من تفادي الكآبة

لا شك في أن عدم الشعور بالكآبة لا يعني أنك سعيد. يجعل هذا الواقع هذه المناقشة أكثر تعقيداً (وأهمية). تشير بويم: {قد لا تعاني على الأرجح أعراض الكآبة أو القلق، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أنك في أفضل أحوالك}. دارت مناقشات طويلة بين علماء النفس حول ما إذا كانت السعادة والتعاسة وجهين لعملة واحدة، أو ما إذا كانتا وحدتين منفصلتين. رُبط {سوء الحال} النفسي (الكآبة، القلق، والغضب) بمشاكل عدة من ارتفاع هرمون الإجهاد الكورتيزول إلى تنامي مخاطر القلب وتراكم دهون البطن وتدني معدل الكولسترول الجيد.

لكن الخير النفسي يرتبط بأوجه مختلفة من صحتنا، كما ذكرنا سابقاً، مثل مؤشرات الالتهاب الحيوية والصحة القلبية الوعائية، مع أن هذا المجال لم يحظَ بالاهتمام الكافي من الباحثين. قارنت إحدى الدراسات مباشرة التغييرات البيولوجية التي ترتبط بخير الإنسان أو سوء حاله. فعثرت على اختلافات كافية تشير إلى أن خير الإنسان وسوء حاله ليسا على الأرجح وجهين لعملة واحدة، بل هما وحدتان منفصلتان تماماً. وقد يفسر هذا لمَ لا يكفي ألا تعاني الكآبة. فالشعور بالسعادة هو ما يولد الفوائد الجسدية التي نريد جميعاً أن نكسبها.

ما الذي يجعلك سعيداً؟

إذا لم تكن الإنسان الأكثر سعادة في العالم، فلا تخف. ثمة طرق عدة تتيح لك تعزيز الشعور بالاكتفاء في الحياة وتطوير إحساس أقوى بالسعادة، ما قد ينعكس عليك إيجاباً عقلياً وجسدياً اليوم وفي المستقبل. وقد يشكل التفكير في الأمور التي تفرحك الخطوة الأولى نحو تحقيق السعادة.

أظهر الباحثون أن مَن تشمل أهدافهم النمو الشخصي والاجتماعي كانوا أكثر سعادة، مقارنة بمن سعوا وراء المال والشهرة. يذكرنا هذا بتصنيف السعادة التلذذية والسعادة العامة الأعمق. يفيد معد الدراسة إدوارد ديسي: {ببلوغك أهداف الحلم الأميركي، مثلاً (منزل كبير، سيارة جميلة، وملابس فاخرة)، تشعر أقل اكتفاء من جهة حاجتك إلى الاستقلال والشعور أنك فاعل في العالم (لأنك تعتمد على تدابير خارجية لا تخضع لتحكمك المباشر)، ما يفاقم سوء الحال}.

إذاً، يبدو أن السعي وراء الغنى المادي الجذاب (منزل جميل، سيارة فاخرة، أو مجهورات) قد يجعلنا أكثر فقراً نفسياً، مقارنة بالأهداف الكبرى، مثل النمو الشخصي وإرضاء الذات.

تشدد الدراسة على الفارق بين ما نظن أنه قد يجعلنا سعداء وما يشعرنا بالسعادة حقاً وبالتالي أصحاء جسدياً. فباتباعك قيمك والعثور على طرق للعطاء، تخدم نفسك في النهاية. إذاً، لا يكفي أن تقوم بالأمور التي تمنحك شعوراً جيداً. يوضح ديسي: {إذا كنت تعيش حياتك بالطول والعرض، فستختبر عواطف إيجابية عدة. ولكن إذا أردت أن تتعلم كيفية عيش حياة ذات معنى، فلا يكفي البحث عن الخير الشخصي}. بكلمات أخرى، من الضروري أن تعثر على نشاطات تحمل قيماً بالغة الأهمية وتعمل على أن تكون جزءاً منها (بالقيام بما تؤمن به، التطوع، أو المساعدة في مجتمعك بطرق أخرى)، ما سيعود عليك بفوائد أكبر على الأرجح.

الدرب الأكثر إشراقاً

لا تُعتبر العلاقة بين السعادة والصحة بسيطة. وثمة تفاصيل كثيرة لا نزال نجهلها وتتخطى ما قد يقدمه هذا المقال. لكننا نتعلم أن السعادة أو بالأحرى الشعور بأن لحياتنا معنى لا يرتبط بالصحة الجسدية فحسب، بل أيضاً بصحة الدماغ.

على سبيل المثال، يعاني مرضى الزهايمر الذين يملكون هدفاً ومعنى في الحياة يُصابون بأعراض أقل (مشاكل معرفية)، مقارنة بمن لا ينعمون بميزة مماثلة. في المقابل، يُعتبر خطر الإصابة بأنواع محددة من الخرف، منها الزهايمر، أكثر ارتفاعاً بين مَن يعانون الكآبة في منتصف العمر أو مع التقدم في السن. ولا شك في أن هذه العلاقات تعقد فهمنا للسعادة والصحة، ويجب أن نأخذها دوماً في الاعتبار.

خلاصة القول، ندرك أن ثمة روابط قوية بين الصحة والسعادة، الشعور بالاكتفاء في الحياة، والحصول على هدف فيها. لكننا لا نزال نجهل الكثير عن طرق التفاعل بينها. فالخير العقلي، سوء الحال، الدعم الاجتماعي، خيارات نمط الحياة، والصحة الجسدية، تشكل كلها شبكة واسعة من المتغييرات التي تؤثر أحدها في الآخر.

فيما يواصل الباحثون عملهم على تحديد هذه العلاقات، قد يكون من الجيد أن تخصص الوقت لاكتشاف هدفك في الحياة. ولا شك في أن هذا سيعود بالفائدة على صحتك، وسيجعل حياتك اليومية أكثر متعة وحماسة. من المؤكد أن السنوات المقبلة ستحمل لنا فهماً أعمق لماهية السعادة، نفسياً وجسدياً. وقد يؤدي هذا بحد ذاته إلى فهم أعمق لماهية الصحة.