{أرجوك يا أبو ممدوح تذكرّ كل الكلام اللي يقوله القرآن الكريم عن العفو والمغفرة: إن تعفوا وتسفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم. هذي بنت طفلة بعدها ما فات عمرها السبعطعش سنة احبسها بغرفة الكشك فوق. خليها تعيش على الخبز والماي إلى ما الله يفتح لها باباً. كل شي ينحل بالوقت}. هكذا تكلمت العمة وفية لأخيها أبو ممدوح، تاجر خيل في محلة المشاهدة من جنوب بغداد. كانت واحدة من ثمان نساء من العمات والخالات وبنات العم والأقارب جئن وجلسن على الفراش القطيفة الممتد فوق الحصائر في ايوان ذلك البيت الشرقي الذي يحيط بفسحة الحوش المفتوح إلى السماء. وفي زاوية من الإيوان وضعوا منضدة ثقيلة من الخشب الجاولي منقوشة بنقوش هندية تنم عن أصلها وشذوذها عن هذا البيت البغدادي الأصيل. وعلى سطح هذه المنضدة استقرت مزهرية نحاسية هي الأخرى من أصل هندي منقوش بنقوش دقيقة مزدحمة بأشكال وردية في مدخل البيت، وهو المعروف بالمجاز، وضعت مجموعة من الأحذية النسائية بصورة مبعثرة، لا تلبث أن تدرك فوراً أنها أحذية الزائرات. فلا يجوز للنساء أن يدخلن بأحذيتهن. الدخول بالأحذية امتياز محصور بالرجال فقط. كان جميع البيت معطراً برائحة البخور التي تشمها حالما تدخل لأغراض طرد الشيطان وليس طردك. بيد أن رائحة البخور اختلطت برائحة المرحاض والبالوعة التي انفتحت فوهتها بثقب صغير في الأعلى لا يتجاوز قطره الأربعة أو الخمسة سنتمترات. كانت هناك قطتان أشبه بالفئران منهما بالقطط، جلستا بشكل قائم وبصبر طويل انتظاراً لأي فرصة قريبة تسنح لغزو المطبخ وسرقة أي شيء من اللحم الحلال بالنسبة إلى القطط، تتركه ربة البيت سهواً على طاولة المطبخ من دون حراسة. كانت العجائز والنسوة المتقدمات في السن قد تجلببن بصورة عامة بثياب سوداء وزرقاء قاتمة، في ما عدا الخالة وحيدة وابنة العم السيدة صديقة اللتين لبستا فساتين بسيطة مزينة بنقوش وأشكال من الزهور الكبيرة، انسابت حتى الكعبين. بيد أن جميع النساء في هذه المجموعة قد غطين شعرهن الأسود والأشيب بفوطات سوداء أو أحجاب من نوع البويمة، وهو النوع التقليدي للف الشعر لنساء الطبقة المتوسطة من أهل العراق في الحقبة التي جرت فيها أحداث هذه الرواية، وهي فترة الأربعينات من القرن العشرين. لقد اجتمعن جميعاً في بيت الحاج نوفل أبو ممدوح وشكلن في ما بينهن نصف دائرة بشكل هلال حوله في الإيوان لغرض واحد هو إنقاذ حياة الصبية سميرة، البنت المسكينة التي ما زالت في العقد الثاني من عمرها. أما الحاج نوفل فكان مجلبباً بثياب رجال الأعمال في السوق، وهي الصاية الطويلة الفضفاضة التي تشد حول الخصر بحزام عريض مزخرف. ويرتدي المرء فوقها سترة من النوع المعاصر. كان هذا الخليط بين القديم والجديد يعبر خير تعبير عن امتزاج الماضي بالحاضر، ويجسِّم هذا الخلط السائد في عالم الشرق الأوسط بين القدم والعصرنة، بين التاريخ القديم ومرحلة النهضة الحديثة. كان من رموز الحداثة أيضاً الحذاء السكسوني والجوراب الطويلة المثبتة بشريط مطاطي من البلاستيك تحت الركبتين تماماً. وضع الرجل على رأسه عمامة من نوع الكشيدة التي كان يلبسها التجار ورجال السوق من أبناء ذلك الجيل المخضرم. وكانت تتكوَّن من قسمين، الأول الطربوش، أو الفينة الحمراء بلون الرمان، والثاني الشريط الكثيف الملفوف حولها من القماش السميك الموشى بنقوش مطرزة بشكل ذهبي يعبر عن الثروة التي جمعها اللابس بالحلال أو الحرام، وتجسِّم هيبته ومكانته البارزة في المجتمع. بدا كل ذلك فوق الوجه الحليق والمستطيل نوعاً ما لسيد البيت. حرص الرجل على إضفاء المزيد من الهيبة على سيمائه بشنب كثيف محترم صبغه بالحناء بنحو يكاد يناظر لون الطربوش. كان وجهه العجوز والمغضن قد تعكَّر ببضع حبيبات وآثار دمامل وجروح وبثور مما يعرف بالبثور البغدادية. سميت بذلك ربما اعتزازاً بها. بينما كانت النسوة يتكلَّمن معه، كان هو مشغولاً بمسبحته الكهرب ذات الثلاث والثلاثين خرزة صفراء تتميز عن مسبحات التسع وتسعين خرزة سوداء المخصصة للنساء. وكان ذلك هو الشيء الوحيد الذي سمح للمرأة أن تأخذه بعدد أكبر مما يأخذه الرجال. ولكن المجتمع سمح للرجال باختيار المسبحة بأي لون أو من أي مادة يشاؤون، وكان الكهرب الأصفر، الحقيقي أو المزيف، والعقيق من المواد المفضلة فيما حددت المرأة بالسبحات السوداء بوجه عام ومن دون الرأس أو الشاهول الفضي. لم يكن الحاج نوفل من أهل بغداد الأصيلين. ولم يجمع ثروته في العاصمة العراقية. كان تاجراً في البصرة يشتغل بتصدير الخيول العربية إلى شركائه من التجار اليهود في الهند. ولكنه في الواقع لم يجمع ماله من الخيول العربية وإنما من النساء الهنديات. لقد أدت الأزمة الاقتصادية العالمية في الثلاثينات إلى ضرب شركات سباق الخيل في بومبي وكراتشي ضربة قاضية واضطر الحاج نوفل إلى بيع خيوله الأصيلة بأبخس الأثمان، فتحمل خسائر فادحة. لم يعرف ماذا يفعل، وعزَّ عليه أن يعود إلى دياره في البصرة ومواجهة قومه وهو شحاذ معدم وتاجر فاشل. الهيبة هي كل ما يهم في الرجل المحترم في دنيا الشرق الأوسط. نظر حوله باحثاً عن أي شيء آخر يمكن القيام به. لم يستغرق كثيراً من الوقت ليكتشف أن جني الفلوس من وراء المرأة خير بكثير من جنيها من وراء حصان. وبهذا الاكتشاف البسيط فتح دار مبغى صغيراً وخصوصياً في بومبي. بدأه أولاً باثنيتن فقط من بنات كشمير البيضاوات. سرعان ما ازداد الرقم إلى ستة، ثم إلى عشرة. بعد بضعة أشهر فقط، فتح مبغى ثانياً في كراتشي. ازدهرت أعماله هذه بحيث أصبح لقب {الحاج} من الأسماء الذائعة الصيت في دنيا الفسق والفجور في عموم الهند. وبعد أن كسب ثروة جيدة يكون لها وقعها بين أصحابه في مدينته البصرة، عاد إلى وطنه فخوراً بثروته بيد أن أهله وأصحابه استقبلوه بكثير من الفتور قالوا له: {ألا تخجل من نفسك وأنت ابن الجلبي حجي فيصل تأتي بثروة من مثل هذا العمل؟}. أجابهم قائلاً بكل برود: {وأنا شنو علاقتي بالموضوع؟}.بيد أن الحاج نوفل أدرك جيداً أن أهالي البصرة المتدينين الذين يخافون ربهم لا يفهمون منطقه هذا القائم على بوادر روح العولمة ومبادئ آدم سميث. جمع ثروته وأسرته ورحل إلى بغداد، المدينة التي يتفهَّم سكانها جيداً هذا المنطق العملي الذي باشر به الحاج نوفل. ولكنه سرعان ما وجد المنافسة في بغداد قوية جداً، وأقوى مما اعتاد عليه في الهند. قرر ترك ذلك والعودة إلى مهنته في تجارة الخيول ولإتمام توبته توبة نصوحاً، أخذ طريقه إلى مكة المكرمة وأدى فريضة الحج وعاد حاجاً إلى بغداد. قال لوكيل الحج الذي بدا على وجهه شيء من معالم الشك والعجب: {أؤكد لك وأقسم لك بالله. هالفلوس اللي راح أحج بها مو من فلوس ذاك الشغل بالهند. هذي الفلوس اللي أعطيك ياها كلها حلال بحلال مية بالمية}.بيد أن فكر الحاج أبو ممدوح كان مشغولاً في هذا اليوم بالذات وقد سطعت شمس الظهيرة وأضرمت النار في طابوق البيت، في أمر مختلف تماماً وأكثر خطورة. تضايقت أنفاسه وعضَّ على شفته السفلى فيما كان يسمع احتجاجات النسوة من أخواته وبنات أخوته، وكل واحدة منهن تطرح رأياً آخر وتناشده. وكما هو معتاد من الجنس اللطيف في نيل ما يشأن بمجرد الإلحاح والإعادة، عمدت العمة وفية إلى تكرار كلام الله، {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم}. {هذا كلام الله يا أبو ممدوح، التوبة باب المغفرة. هذا ما قاله ربنا}.ولدعم ما قالته العمة وفية ودفاعاً عن جانب المرأة، بادرت أختها سليمة إلى الانضمام إلى هذا التوسل والمحاججة. قالت: {وبكل تأكيد، ياما وياما ظهرت على البنات علامات الحمل بدون حمل. تظهر على المراهقات أشكال وأشكال من الأعراض العجيبة}.كانت والدتها العجوز وقد انحنى ظهرها وتغضن وجهها بشتى الخطوط والأخاديد قد جلست ولزمت الصمت. بيد أن شفتيها المتدليتين أخذتا ترتجفان وتتمطيان بصورة لاإرادية عبرت عن استيائها واعتراضها. هزت رأسها في تأييد ابنتها بما أدى إلى تدفق البصاق من زاويتي فمها. مسحت ذلك بحاشية حجابها بأناة ودراية.آن الوقت لعمة أخرى أن تدلي بما عندها. كانت ترتدي فستاناً من الحرير الاصطناعي. ما إن فتحت فمها لتقول كلمتها حتى سقط طقم أسنانها الأعلى بما منع عنها إنهاء كلمتها: {أعتقد أنه على البنت أن...}. مدَّت يدها الموشاة بالوشم الأزرق لتعالج أسنانها فأخرجت الطقم وجففته بكم ردائها وأعادته إلى مكانه من فمها: {كنت أريد أن أقول}. وسقطت ثانية القطعة اللحمية اللون والبيضاء السن ومنعتها من إكمال جملتها.كانت أم حليم تجلس في الموضع المقابل فأخذت زمام الكلام وقالت لها: {هذا الطقم التعبان ما ينفع أبداً. قلت لك ألف مرة غيريه. قلت لك لا تروحين لهذا مركِّب الأسنان الإيراني دكتور حسين آغا براس الجسر. قلت لك روحي للطبيب الأرمني، الدكتور غاربيان. يكلفك كم فلس أكثر ولكن تحصلين منه طقم مال أوادم تعتمدين عليه}.{ما يمكن تعتمدين على واحد إيراني بأي شيء}، قالت الخالة مليكة وأخرجت طقم أسنانها من فمها: شوفي! هذا طقم محترم شغل الأرمني. ديناران زيادة ولكن تسوى أنا دائماً أقول كلما تحتاجين حاجة روحي على واحد أرمني، من تصليح الكندرة إلى تصليح الأسنان. ما تلقين أحسن من الأرمن}.
توابل - حبر و ورق
على ضفاف بابل
03-01-2015