«ما بعد وضع حجر الأساس لمشروع الحمام بالكيلو 375» (مصر / 2014) هو عنوان الفيلم الروائي القصير الذي أخرجه الشاب عمر الزهيري، وشارك به في مسابقة «المُهر القصير» في الدورة الحادية عشرة لمهرجان دبي السينمائي الدولي (10 – 17 ديسمبر 2014)، وهو أطول وأطرف عنوان من بين عناوين الأفلام التي عرضها المهرجان، خصوصاً أنه لا ينفصل عن مضمون الفيلم، ويعكس رؤيته الساخرة بدرجة كبيرة.

Ad

تبدأ مشاهد الفيلم (18 دقيقة) بصحراء جرداء اختيرت خصيصاً من وزارة الصناعة والتعمير (لاحظ التركيبة المتنافرة لاسم الوزارة!) لتدشين مشروع مرحاض عمومي (تواليت) في الكيلو 375 (هكذا تكون المشاريع التنموية الكبرى!)، ويأتي المسؤول في سيارته ليضع حجر أساس «المشروع» وسط احتفاء وتصفيق ثلاثة موظفين، ورابعهم في الخلفية مع حمار ينتظر انتهاء الزيارة، لكن أحدهم لم يستطع أن يتمالك نفسه وعَطَسَ، وكما فعل إيفان ديمتريفيتش تشرفياكوف في «موت موظف» رائعة الكاتب الروسي الكبير أنطون تشيخوف (1860- 1904 )، عاد الموظف في الفيلم إلى بيته مهموماً منكوداً، وقص على زوجته ما جرى فطالبته بأن يعتذر إلى المسؤول!

 منذ اللحظة التي تعرفت فيها إلى صورة وملامح «موظف تشيخوف» في الفيلم الذي أنتجه المعهد العالي للسينما، انتابني شعور كبير بالقلق خشية أن يتجاهل المخرج الشاب عمر الزهيري التنويه إلى مصدره الأدبي، خصوصاً أن «تترات» البداية لم تُشر إلى هذا، كذلك الحال في المعلومات الواردة في الكتاب الرئيس للمهرجان، وموقعه الإلكتروني. لكن المخرج كان أميناً مع نفسه، ومع جمهور فيلمه، عندما ذكر، مع عناوين النهاية، أن فيلمه مأخوذ عن «موت موظف» لتشيخوف، كذلك قدم لنا اسم كاتب السيناريو شريف نجيب، الذي احتفظ بروح القصة ورسالتها، لكنه أضاف بعض التفاصيل المفيدة، كالواجهة الكالحة للمبنى الحكومي الذي تحسه مهجوراً، وطريقة ارتداء الموظف لبدلته ورابطة عنقه، واحتفاظه في بيته بحوض زجاجي صغير في داخله سمكة كبيرة الحجم وحيدة، حائرة ومخنوقة تبحث عن الخلاص، وكأنها الموظف نفسه، فضلاً عن الحياة الرتيبة التي يعيشها، وزوجته التي لا تخلو ملامحها من كآبة. غير أنه لم يكن موفقاً في استبدال الصحراء التي ينعدم فيها تأثير العطسة بالصف الثاني من الأوبرا، حيث يجلس الموظف في الرواية. ثمة أيضاً في رائعة تشيخوف مبرر قوي لإصرار «تشرفياكوف» على مطاردة «بريزجالوف» في كل مكان ليقدم اعتذاره عن العَطَسَة؛ فهو «جنرال» مرهوب الجانب ينتمي إلى نظام قمعي صاحب قبضة حديدية، لكن مبرر «الموظف» في فيلم «ما بعد وضع حجر الأساس لمشروع الحمام بالكيلو 375» لم يكن كافياً، حتى لو كان الهدف رصد حجم السطوة التي وصل إليها «البيروقراطيون» في الأنظمة المدنية الفاشية، والإيحاء بأن «الخوف غريزة كامنة تحت الجلد، وثمة خطورة في تحويره»، كما قيل في تقديم الفيلم بكتاب المهرجان، فالكاتب الروسي الكبير أراد التنديد بالقمع الأمني، ومناهضة القهر السياسي، واكتفاء المخرج عمر الزهيري وكاتب السيناريو شريف نجيب بالقول إن «الموظف» كان مدفوعاً بغريزة الخوف وحدها يخصم من أهمية الفيلم، ويسيء فهم القصة التي تحولت إلى نص «كلاسيكي» خالد، يتبارى المبدعون على مر الأزمان والعصور في تقديمه عبر الشاشة، وعلى خشبة المسارح، كونه لم يفقد صلاحيته في أي وقت، وقادراً على تفجير السخرية اللاذعة من أي مسؤول متغطرس ينتمي إلى نظام متعفن اتسعت الهوة بينه وبين الرعية، وأسيء فهم العلاقة بينهما!

المُدهش أن كاتب السيناريو والمخرج أدخلا تعديلاً إلى النهاية، التي وضعها تشيخوف، ورأى فيها أن «تشرفياكوف» لم يحتمل الإهانة التي تعرض لها على يد «الجنرال» فما كان منه سوى أن «تراجع إلى الباب، وهو لا يرى ولا يسمع شيئاً ثم خرج إلى الشارع وهو يجرجر ساقيه... وعندما وصل إلى المنزل استلقى على الكنبة من دون أن يخلع حلته... ومات»، بينما مات «الموظف» في الفيلم بعد مغادرته مقر الشركة بأمتار قليلة، وقبل أن يصل إلى بيته، وهي في رأيي نهاية واقعية تتوافق مع نفسية وشخصية المواطن العربي، الذي لا يحتمل الإهانة، ويفرض عليه إحساسه المتفاقم بكرامته، بألا ينتظر، وأن يضع حداً فاصلاً للأمور بأسرع ما يمكن.

في الأحوال كافة، قدَّم المخرج الشاب عمر الزهيري تجربة مهمة تنبئ بقدرته على الاحتفاء بالنص الأدبي، وتقديم أفكار تقطر بالسخرية، وكشف عن موهبة في اختيار ممثليه (سامي سيد في دور الموظف)، وتحديد زوايا وأحجام وتكوين الكادر (كاميرا مدير التصوير محمود يوسف) وإحكام قبضته على إيقاع الفيلم (مونتاج هشام صقر) رغم التطويل الذي شاب بعض المشاهد.