يقول جاي أولسون للمتطوعة، مقدماً لها الورق الذي يحمله بيده: {سأقطع الورق هنا وأريدك أن تنظري إلى الورقة في الوسط. لا في الأسفل لأن هذا سهل بالنسبة إليّ، بل الورقة في الوسط. هيا!}.توافقه الرأي، فيقطع الورق وتنظر. يعيد أولسون، طالب دراسات عليا في جامعة ماكغيل، الورق إلى علبته ويعطيه للمتطوعة. ثم يسألها: {إذاً، أيها اخترت؟}، فتخبره أنها اختارت ورقة 10 الكوبا. فيكرر: {10 الكوبا؟ عظيم! هل يمكنك الآن النظر إلى غلاف العلبة للتحقق من أنه عادي؟}. فتقوم بذلك. يضيف أولسون: {خذي العلبة وأقفلي يدك عليها}.يحرك بعد ذلك أصابعه فوق يدها، ويقول لها: {أريدك أن تفتحي يدك ببطء وتقرأي الشفرة الشريطية}. ولا شك في أنها تعثر على الكلمات التالية مطبوعة على العلبة: 10 الكوبا. تعيد المتطوعة العلبة إلى أولسون وهي تضحك مما بدا لها مستحيلاً. لكنها لا تدرك أنها لم تختر حقاً 10 الكوبا، بل اختارها أولسون لها بحيلة صغيرة سريعة وخفية، ما جعلها تبدو أقرب إلى السحر.يشكل هذا المشهد جزءاً من شريط فيديو نُشر بالتزامن مع دراسة أولسون الأخيرة التي نُشرت في مجلة Cognition and Consciousness. فبالتعاون مع فريق من الباحثين من جامعة ماكغيل وجامعة كولومبيا البريطانية، برهن فاعلية تقنية يدعوها السحرة {الإرغام}، أي التلاعب بقرارات الشخص من دون علمه. تفاصيل الدراسة عرضها كنزي سوندرز في CARI ROMM.في الجزء الأول من الدراسة، اقترب أولسون، ساحر متدرب، من 118 شخصاً وطلب منهم أن يختاروا عشوائياً ورقة فيما راح يقلب الأوراق، علماً أن هذا لا يستغرق أكثر من نصف ثانية. ولكن في كل مرة، يحدد أولسون ورقة في ذهنه. وفيما يقلب الورق، يتعمد أن يعرض هذه الورقة المحددة لوقت أطول بقليل من سائر الأوراق. وفي 98% من الحالات، اختار الشخص الورقة التي حددها أولسون، مع أن 91% من المشاركين أكدوا أنهم هم انتقوا الورقة. نتيجة لذلك، يكتب معدو هذه الدراسة أن {السحر قد يقدم أساليب جديدة لدراسة شعور الإرادة الحرة}.ولكن عندما سألت أولسون عن هذه الخدعة وكيفية تلاعبه بالأوراق كي يعرض هذه الورقة بالتحديد لوقت أطول بجزء من الثانية، تردد قائلاً: {لا يمكن البوح بذلك لأنه جزء من السر}.يشكل أولسون وزملاؤه جزءاً من مجموعة متنامية من الباحثين الذين يرسون ما تكشفه حيل كهذه عن طرق تفكير الإنسان، تكوينه نظرة خاصة إلى شتى المسائل، والتذكر. لا شك في أن العلم والسحر لا يبدوان متكاملين من نواحِ عدة: يبذل الأول الجهد لكشف قواعد العالم، في حين يعتمد الثاني على القدرة الظاهرة على كسر هذه القواعد. كذلك يحاول الأول تعميق الفهم، في حين يشكل الثاني نوعاً من الفن الذي يستند استمراره إلى السرية.لكن هذا التكامل يبدو منطقياً من نواحٍ أخرى. يبني السحرة مهنتهم على معرفة كيفية تصرف الناس، في حين يبحث علماء النفس عن أسباب هذا التصرف. ويحاول مجال البحث الجديد هذا، الذي يدعوه البعض {السحر العصبي}، سد الفجوة بينهما. حمل عدد خاص أخير من مجلة Frontiers in Psychology عنوان: {علم نفس السحر، سحر علم النفس} (شارك أولسون في تحريره)، وضم دراسة عن البصيرة وحل المشاكل اللذين دفعا المشاركين إلى مشاهدة الحيلة ذاتها مراراً إلى أن تمكنوا من حلها، كذلك ضمّ دراسة ثانية اعتمدت على بيانات من تتبع حركة أعين المشاهدين للتحقق من انتباههم، وثالثة استخدمت التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي بغية اكتشاف ما يحدث في الدماغ عندما يشاهد الإنسان حدثاً يبدو خارقاً.يذكر غوستاف كون، بروفسور علم نفس في كلية غولدسميث في جامعة لندن وساحر محترف ومحرر آخر لعدد Frontiers عن السحر: {يُعتبر الرابط الفعلي بين العلم والسحر تلقائياً. ولكن من الصعب تحديد العلاقات المباشرة بين المجالين. ويعود ذلك، في جزء منه، إلى أن السحرة والعلماء يستخدمون لغة مختلفة لوصف المبادئ ذاتها}.على سبيل المثال، يمكن للإرغام، التقنية التي اعتمد عليها أولسون في خدعة دراستها، أن يسلك مسارين مختلفين لبلوغ الغاية ذاتها. يحدث الإرغام الحسي، الذي استخدمه أولسون، عندما نسعى إلى إبراز غرض أكثر من كل ما يحيط به. في المقابل، يوضح أولسون أن الإرغام النفسي يكون {عندما تحاول أن تجعل خياراً الأكثر أهمية في عقل شخص ما. لنفترض أنني طلبت منك أن تفكر في ورقة. وبالاستناد إلى الكلمات التي أستخدمها، أستطيع أن أرغمك على انتقاء ورقة محددة} (في دراسة سابقة، تحقق أولسون وزملاؤه من العوامل التي تجعل بعض الأوراق أكثر بروزاً وترسخاً في الذاكرة من غيرها. على سبيل المثال، عندما طلب الباحثون من المشاركين اختيار ورقة، وقع خيار 40% منهم على آص السباتة أو بنت الكوبا. وقد نشر الفريق هذه المعلومات لاحقاً في مجلة السحرة Genii). إذاً، يخدم النوعان الهدف عينه (يتخذ المشارك ما يظنه خياراً)، إلا أن الأول يستند إلى وجهة النظر، في حين يُعتبر الثاني خليطاً معقداً من الذاكرة، الربط، والتفاعل الاجتماعي.وهم وتضليلمن الأسس الأخرى التي يستند إليها السحر الوهم والتضليل، وهما يشكلان تحدياً مماثلاً. أخبرني كون: {عندما يلجأ السحرة إلى التضليل ليمنعوك من التنبه لأمر ما، لا تكون الآلية التي يستندون إليها لتحقيق ذلك ملائمة. عليهم أن يختاروا آلية فاعلة حقاً. لكنك قد تخفق في التنبه لأمر ما، مثلاً، لأنك تعجز عن تحليل المعلومات أو لأنك تحللها ومن ثم تنساها. وتشكل هاتان عمليتين مختلفتين جداً في النظر والذاكرة. وبالنسبة إلينا نحن العلماء، من الضروري التمييز بينهما}.قد يكون ممكناً تحويل بعض عناصر السحر إلى أنماط ومن ثم إلى علم، إلا أن عناصر أخرى تبقى صعبة التحديد، مع أننا نستطيع ملاحظتها بسهولة. تختلف الخدعة كل الاختلاف عن التجربة المخبرية، فهي عمل اجتماعي بحت يستمد استمراره من التفاعل بين الساحر والحضور. في الجزء الثاني من دراسة أولسون في Cognition and Consciousness، حاول الباحثون تطبيق النوع نفسه من الخدع على شاشة الكومبيوتر، فيما تبقى إحداها على لوقت أطول بقليل من الأوراق الأخرى. فاختار المشاركون هذه الورقة في 30% من الحالات. وتُعتبر هذه بالتأكيد نسبة كبيرة ، مع أنها أصغر بكثير مما حققه أولسون خلال تقليبه الأوراق.يوضح أولسون: «عندما تريد منهم أن يختاروا ورقة، فعليك أن تفرض عليهم خياراً سريعاً ولا تسمح لهم بأخذ وقتهم والقول: ‘هل يمكنني أن أبدل ورقتي؟’. إذا شعر المشارك بانزعاج أكبر، يزداد احتمال أن يتبع ما تفرضه عليه». ولكن أمام شاشة الكمبيوتر، يختفي شعور الانزعاج هذا، ويزول معه احتمال الوقوع عن عدم انتباه ضحية تأثير الإرغام.إذاً، دراسة السحر تقوم على دراسة الأشخاص والمجموعات بقدر ما هي دراسة الحواس وإشارات الدماغ. ينظر الساحر إلى الكل بقدر الجزء. أخبر الساحر الشهير كريس أينجل مجلة Parade عام 2007: {تقوم عروض كثيرة أقدمها، عندما أدخل عقول الناس، لفهم سلوك الإنسان وفهم كيفية تفكير الناس والتحكم في أنماطهم}.الشعوذة والمكرفي عام 1900، نشر نورمان تريبليت، بروفسور في جامعة إنديانا، مقالاً في المجلة الأميركية لعلم النفس الاجتماعي بعنوان {علم نفس الشعوذة والمكر}.كتب، مقدماً لائحة قد لا تُعتبر شاملة بالكاملة، إلا أنها قاربت ذلك: {في مجموعة واسعة من الحيل المبتكرة القائمة نعثر على مواد بالغة الأهمية لعالم النفس}. وفي عشرات الصفحات التالية، عمل على توزيع كل الحيل السحرية التي عرفها على فئات مثل {خدع تشمل مبادئ علمية}، خدع تشمل قدرة غير اعتيادية، معلومات مهمة...}، و}خدع تعتمد، إلى حدّ كبير، على العادات الفكرية الثابتة بين المشاهدين}.ولكن خلال العقود القليلة التالية، خبا اهتمام علماء النفس بالسحر، وفق رونالد رنسينك، بروفسور علم نفس في جامعة كولومبيا البريطانية شملت أبحاثه أوهام الخدع السحرية. أخبرني ألا أحد يعرف السبب، لكن البعض يعتقد أن هذا عائد إلى بروز الحركة السلوكية في مطلع القرن العشرين. وأضاف: «حاولوا تفكيك كل المسائل إلى أجزاء بسيطة صغيرة. فإن رن الجرس، يُتوقع تناول الطعام: روابط بسيطة، حوافز بسيطة... لكن السحر لا يتلاءم مع كل هذا».ومن الأسباب الأخرى التي طرحها واقع أن الجزء الأكبر من الفوائد التي يحملها السحر إلى العلم تنبع من مكانته كإطار لقياسات مثل تتبع حركة العين أو التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، وهذه مسائل لم تكن متوافرة في عهد تريبليت. وتابع موضحاً: «لا تنسَ أنهم ما كانوا يملكون هذه التقنيات التي نتمتع بها اليوم، لذلك لم يستطيعوا اجتياز شوط أكبر».بغض النظر عن السبب، ظل السحر بعيداً عن اهتمام العلماء حتى 2007، حين تحول إلى نجم مؤقت. عُينت عالمة الأعصاب سوزانا مارتينيز-كوند، التي يركز عملها على الخدع البصرية في الفن، رئيسة اللقاء السنوي للجمعية الأميركية لدراسة الوعي في فيغاس. أرادت هي وعالم الأعصاب ستيف ماكنيك، الذي تشاطرت معه رئاسة هذا اللقاء، أن يؤسسا هذا المؤتمر حول محور يثير اهتمام مَن هم خارج هذا المجال، حسبما أخبرتني. قالت: «فكرنا في اختيار محور قد يكون له دخل بالفن». ولكن خلال الرحلة إلى لاس فيغاس للتخطيط لكامل تفاصيل هذا اللقاء، وفق مارتينيز-كوند، «كنا نتجول في تلك المنطقة ولاحظنا كل تلك اللافتات الكبيرة: بن وتيلير، ديفيد كوبرفيلد، وغيرهما. فأدركت حينذاك أن السحرة فنانون يستندون على القدرة المعرفية للإنسان، تماماً كما أن الرسامين والبصريين طوروا كل تلك الخدع البصرية».تخبر مارتينيز-كوند أن هذين الزوجين طالبا من مجموعة من سحرة لاس فيغاس المشاركة في المؤتمر وتقييم محاضرات عن مواضيع مثل {لماذا تنجح خدعة سحرية معينة في عقول المشاهدين؟}. قبل خمسة منهم، بمن فيهم تيلير الصامت عرض بن وتيلير، الدعوة. كذلك تعاونوا لاحقاً مع مارتينيز-كوند وماكنيك في بحث نُشر في مجلة Nature وحددوا الدروس العلمية المستمدة من الخدع السحرية المختلفة.وفي لحظة شفافية نادرة، أوضح السحرة أسرارهم للحضور في اللقاء (تتوافر الأشرطة على شبكة الإنترنت)، مع أن مارتينيز-كوند رفضت، على غرار أولسون، توضيح الآليات وراء الخدعة، بعدما وصفت نجاح تيلير في جعل قطع نقدية تظهر في الهواء. أخبرتني: {وقعنا في مشاكل سابقاً}. بعد لقاء فيغاس، انضمت هي وماكنيك إلى عدد من جمعيات السحرة، التي تفرض على أعضائها عدم الإفصاح عن أسرار المهنة.ولكن مَن يدرسون السحر كعلم لا كفن يقرون بأن معرفة تفاصيل الخدع البسيطة غير ضروري. فالسحر، مع أنه محيط مغلق إلى حد ما، يتغذى من الميول الأكثر شيوعاً وشمولية.كتبت مارتينيز-كوند وماكنيك في كتابهما Sleights of Mind (حيل العقل): {نود أن نوضح على مستوى أساسي لمَ نحن معرضون بالكامل لحيل العقل. نود أن نرى كيف يشكل الخداع جزءاً لا يتجزأ من الإنسان. فنحن نخدع أحدنا الآخر طيلة الوقت}.
توابل - Hi-Tech and Science
سحر الدماغ... حليف العلماء لفهم الطبيعة البشرية
21-02-2015