مع انطلاق المحادثات بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأوكراني بيترو بوروشنكو في روسيا البيضاء، تراكمت الأدلة التي تُظهر أن روسيا تصعّد هجومها على الأراضي الأوكرانية بإرسالها جنوداً وعدداً من الدبابات إلى شرق أوكرانيا، فسارع حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى إدانة أعمال روسيا، إلا أن الإدانات المماثلة السابقة لم تنجح في ردع بوتين، لكن هذا التحالف لا يملك أي خيارات، غير الكلام القاسي، بغية ردع تمرد روسيا في دولة أوروبية مجاورة أساسية.

Ad

لا تنتمي أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي؛ لذلك لا يُعتبر هذا الحلف ملزماً بموجب أي معاهدة بنشر الجنود أو تقديم الدعم الجوي لأوكرانيا، ولكن حتى لو لم يزود حلفاء حلف شمال الأطلسي الأوكرانيين بالسلاح، فقد ينتهي بهم المطاف بطريقة غير مباشرة إلى تسديد ثمن السلاح الذي تحتاج إليه أوكرانيا في المستقبل، فوضعها الاقتصادي حرج، في حين يتواصل الصراع متخطياً "الساعات" القليلة التي توقع بوروشنكو أنه يحتاج إليها لاستئصال الانفصاليين عند انتخابه في شهر مايو.

تعرّض عقيدة بوتين (الاعتقاد أن لروسيا الحق في حماية الناطقين بالروسية أينما كانوا) أمماً في حلف شمال الأطلسي، مثل إستونيا ولاتفيا وبولندا، للخطر، ففي كل من هذه الدول مواطنون ناطقون بالروسية، ويشير الكرملين إلى أنه قد يخترق هذه الحدود في حال ظنت موسكو أن هذه المجموعات مهددة.

يشير كورت فولكر، سفير الولايات المتحدة إلى حلف شمال الأطلسي بين عامَي 2008 و2009، الى أن التحالف واقع اليوم وسط عملية توازن دقيقة: فيحاول الإعراب من جهة عن قوة كافية لإبعاد روسيا عن أعضائه الذين كانوا يشكلون سابقاً جزءاً من الكتلة الشرقية السابقة، في حين يحاول من جهة أخرى تفادي الإعراب عن عدائية واضحة قد تعزز طموحات روسيا بتوسيع أراضيها، فآخر ما يريده هذا الحلف حرب باردة ثانية.

منذ بداية الأزمة الأوكرانية، سعى حلف شمال الأطلسي إلى التباهي بقوته في دول الاتحاد السوفياتي السابقة، فقد خطط، مثلاً، لتدريبات عسكرية كبيرة في بولندا خلال شهر أكتوبر، كذلك زاد عدد الدوريات الجوية فوق دول البلطيق بنحو ثلاثة أضعاف خلال مايو، وأجرى المزيد من التدريبات البحرية في المنطقة، بالإضافة إلى ذلك، سيزور الرئيس الأميركي باراك أوباما إستونيا قبل قمة حلف شمال الأطلسي في ويلز، مما يشكّل دليلاً قوياً على التضامن مع هذا البلد الذي اعتبره بوتين علانية مرشحاً للتدخل الروسي، لكن فولكر يظن أن الحلف يستيطع القيام بالمزيد.

يقول: "بإمكان حلف شمال الأطلسي تأسيس قوة متحركة فاعلة، قوة ردّ تابعة لحلف شمال الأطلسي. هدف هذه الفكرة تأسيس وحدات لها وجود فعلي ليس على الورق فحسب، وحدات تُعرَّف معاً وتتدرب معاً، وتستطيع هذه الوحدات أن تتدرب كقوة متعددة الجنسيات في شرق أوروبا، ولا شك أن هذا سيشكل إعراباً قوياً عن التضامن المتعدد الجنسيات".

أعلنت وزارة الدفاع الأوكرانية أنها اعتقلت 10 رجال من قوات روسيا شبه العسكرية في منطقة دونيتسك المتنازع عليها، لكن وكالات الأخبار الروسية نقلت عن مسؤول روسي قوله إن هؤلاء كانوا هناك مصادفة، ويوم الثلاثاء الماضي، نشرت أوكرانيا شريط فيديو يظهر فيه الجنود الروس الأسرى.

جاء هذا التوغل "العرضي" بعد هجوم أكثر وضوحاً يوم الاثنين حين عبرت مجموعة من الدبابات والجنود من روسيا إلى جنوب شرق أوكرانيا، وغرّدت مستشارة الأمن القومي الأميركية سوزان رايس: "تمثل توغلات الجيش الروسي في أوكرانيا"، التي تشمل أنظمة دفاع صاروخية ودبابات وجنوداً ومدفعية، "تصعيداً كبيراً".

يأتي كل هذا بعد أن حل بوروشنكو الحكومة الأوكرانية في محاولة لإبعاد المتعاطفين مع روسيا، فلا يعزز ازدراء بوتين الواضح بالرأي الدولي، فضلاً عن عدم الاستقرار السياسي في كييف، ثقة بوروشنكو بأن بوتين قادر على التوصل إلى صفقة تنهي الأزمة، فبحلول يوم الثلاثاء، شكلت مصافحة واحدة الإعراب العلني الوحيد عن حسن النوايا بينهما.

يوضح جون هربست، سفير الولايات المتحدة إلى أوكرانيا بين عامَي 2003 و2006، أن أمل التوصل إلى صفقة كان ضئيلاً، حتى قبل الانتهاك الروسي الأخير للسيادة الأوكرانية.

أعلن هربست يوم الاثنين الماضي: "لن نشهد أي تقدم غداً، إلا إذا أعرب بوروشنكو عن استعداده للتنازل عن أجزاء أخرى من بلده لبوتين، ومن الواضح أن الحل الوحيد الذي قد يقبل به الرئيس الروسي يبقى قراراً يمنحه تأثيراً كبيراً أو حق النقض في المسائل المتعلقة [بشرق أوكرانيا]، فمن دون هذا الحل سيواصل بوتين حربه غير النظامية وتمرده، وما من دليل يُظهر أنه مستعد لوقف اعتدائه في أوكرانيا".

تمنح موازنة أوكرانيا بوتين سلطة أكبر، فقد خسرت العملة الأوكرانية نحو 60% من قيمتها منذ مطلع السنة، وزعزعزت التقلبات بسبب الصراع الانفصالي قطاعَي التصنيع والإنفاق، كذلك بدأ هذا البلد يهدر مبالغ كبيرة من قرض السبعة عشر مليار دولار الذي منحه إياه صندوق النقد الدولي، وإذا استمر هذا الصراع حتى الخريف، فستواجه كييف أيضاً مشكلة تأمين ما يكفي من الاحتياطات لشراء الغاز من روسيا في الشتاء، هذا إن لم نذكر أن التفاوض بشأن سعر هذا الغاز سيمنح موسكو نفوذاً أكبر للضغط على أوكرانيا بغية تقديم التنازلات في الشرق.

يوضح إيان بريمر، رئيس مجموعة أوراسيا، أن الحل لردع روسيا ومنعها من استخدام هذا النفوذ يشمل إظهار أن حلف شمال الأطلسي يستطيع التفاعل بسرعة مع أي تهديد.

يعتبر هربست، سفير الولايات المتحدة السابق إلى أوكرانيا، أن الحلول العسكرية لا تحقق إنجازات كبيرة، ويضيف أن على حلف شمال الأطلسي أن يشكك علانية في الوثيقة التأسيسية بين الحلف وروسيا، وهي اتفاق وُقع عام 1997 وينص على أن كل طرف لا يعتبر الطرف الآخر تهديداً.

يقول هربست: "يستند هذا الاتفاق إلى مفهوم أنه ما من خطر متأتٍ من الشرق، لكن تصرف بوتين في أوكرانيا يبدل هذا الوضع".

تُعتبر ألمانيا عاملاً بالغ الأهمية في تنسيق أي خطوة يتخذها الحلف. كانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في البداية مترددة في معاقبة روسيا، ولكن بعد إسقاط طائرة الخطوط الجوية الماليزية الرحلة 17، طالبت بنجاح بعقوبات أكثر تشدداً، غير أن يورغ وولف، رئيس تحرير الموقع الإلكتروني Atlantic-community.org (ومقره في برلين)، يشير إلى أن برلين قد تعتبر أي عقوبات إضافية عملا تصعيديا غير ضروري.

يتابع وولف موضحاً: "قد يتحول الاعتقاد أن رداً قوياً سيؤدي إلى نتائج سلبية إلى حقيقة مرة، مما يعني أنه إذا استعد حلف شمال الأطلسي لحرب باردة جديدة وأقام قواعد عسكرية كبيرة دائمة في بولندا ودول البلطيق، فستعتبر روسيا ذلك استفزازاً وعذراً لتصعد الوضع، ولكن نتيجة الحرب العالمية الأول وقرون عدة من الحرب في هذه القارة، يبدو الأوروبيون أكثر قلقاً من الأميركيين بشأن العواقب غير المتوقعة، والحلقات المفرغة، والدوامات التي تقود نحو الحرب".

يذكر فولكر، سفير الولايات المتحدة السابق إلى حلف شمال الأطلسي، أنه يتفهم هذا التردد، لكن الحفاظ على سلامة حدود الدول الأوروبية التي لا تنتمي إلى حلف شمال الأطلسي يشكل أيضاً مصلحة كبيرة للحلف، فلا تريد دول الحلف الأوروبية أن تتمكن روسيا من السيطرة على الأراضي على طول حدود الحلف الشرقية من دون أي عواقب.

يتابع فولكر مشيراً إلى أن أوكرانيا وجورجيا تشكلان رسمياً شريكين لحلف شمال الأطلسي: "من مصلحتنا أن نحافظ على استقرار أوروبا بحماية أيضاً حدود الدول التي لا تنتمي إلى الحلف وبصون سلامة أراضي شركائنا".

يختم فولكر: "أعتقد أن الموقف السلبي أو غير الحازم يشجع روسيا على مواصلة انتهاكاتها، فإذا لم يتصدَّ لها حلف شمال الأطلسي، فستنتقل روسيا إلى [التعدي] التالي، نحتاج إلى خط واضح تعلم روسيا أنها لا تستطيع تجاوزه".

ديفيد فرانسيس David Francis