كيف بدأت علاقتك بالموسيقى؟

Ad

درست الموسيقى منذ طفولتي وأجيد العزف على البيانو، وكثيراً ما كنت أحمل معي آلة تسجيل إلى الحفلات وأسجل الموسيقى، وقد سافرت إلى أميركا وتخصّصت في هندسة الصوت، حتى يتسنى لي العمل في مجال الموسيقى، وكنت أدّخر كلَّ قرش أجنيه لتحقيق حلمي بإنشاء استوديو في لبنان يضاهي الاستديوهات العالمية.

في العام 1983 ورغم الحرب التي كانت تعصف بلبنان، وضعت الحجر الأساس لجعل الحلم حقيقة واقعة، تحديت ظروف الحرب الضروس القاسية المحيطة بنا، وأسّست الاستوديو، جهّزته بأحدث تقنيات عملت جاهداً على اقتنائها، وشرّعت الأبواب أمام الفنانين،  كلّ الفنانين من دون استثناء، الكبار والمخضرمين والشباب. منذ ذلك التاريخ، لم يقفل الأستوديو بابه لحظة واحدة، بل بقي مركزاً للعازفين والمؤلفين والمطربين. ومع مرور الزمن، تطور وأمسى صرحاً مؤلّفاً من طوابق أربعة، وفي كلّ طابق يستقرّ استوديو مجهّز بالآلات يقودها فنانون موهوبون بكفاءة عالية.

وما هي مكانة هذا الأستوديو في الحركة الفنّية سواء في لبنان أو العالم العربي؟

عندما أسّسته، لم يكن في لبنان سوى استوديو بعلبك الذي كان يعود إلى الدولة ويديره بنك إنترا، ولم يكن آنذاك مجهزاً بوسائل حديثة، فبدأ الفنانون يتهافتون على الأستوديو الحديث الطراز العصري بتقنياته والذي ترجم بصدق مؤهّلاتي وخبراتي الفنيّة التي اكتسبتها من علومي في الخارج. وهنا لا بد من كلمة وفاء لاستوديو بعلبك والقائمين عليه، والذي بقي لسنوات طويلة مقصد الفنانين ومحوّر الحركة الفنيّة في لبنان، وأُنتجت فيه معظم الأغاني والأفلام اللبنانية والعربية في الحقبة الذهبية التي امتدت من خمسينيات القرن الماضي إلى ما قبل الحرب اللبنانية. وبعد تراجعه بسبب الحروب الدائرة على أرضنا، ولحضور كل الإمكانات الموسيقية في هذا «الأستوديو الحلم»، تقاطر عليه كل من أراد تسجيل موسيقى أو غناء.

 

ما هي المعطيات التي جعلت لـ استوديو جو بارودجيان هذه الشهرة الواسعة على الساحة الفنية؟

تربّع لبنان في قلب الشرق الأوسط  بالمجال الموسيقى، ومع أن مصر أُم الدنيا ومحور الحركة الفنية النابض في العالم العربي، إلا أننا حقّقنا حضوراً لافتاً بالجودة والتقنية العالية في تسجيل الأغاني والموسيقى، وصنعنا له ريادة على الصعيدين الإقليمي والعالمي ترسّخ في إنتاج الموسيقى والتسجيل الرقمي، كما أنشأنا أرشيفاً موسيقياً واسعاً لكبار الفنانين من لبنانيين وعرب وأجانب سجلوا أعمالهم عندنا.

كيف يلبي الأستوديو طموحات مَن يقصده؟

سواء كان مَن يقصدنا شاعراً أو ملحناً أو مغنياً، نساعده على إخراج حلمه ومشروعه وتحويله إلى أُغنية كاملة، وإذا أراد وضع خلفية موسيقية لفيديو أو لفيلم، يعمل فريقنا بإتقان على تقديم موسيقى ملائمة له، تتكامل عناصرها بمجملها: إنتاج، إنتاج قياسي، تسجيل الصوت، التأليف الموسيقي، التوزيع الموسيقي، خلط واتقان الصوت الرقمي،  وتسجيل عروض حية.

مَن تذكر مِن الفنانين البارزين سجلوا  أغنياتهم لديك؟

 

غالبية الفنانين سجلوا ويسجلون أغانيهم، وتربطني صداقة وطيدة بهم، على سبيل المثال لا الحصر: نجوى كرم، إليسا، نانسي عجرم، هيفاء وهبي، راغب علامة، عاصي الحلاني، دينا حايك، ملحم بركات، ملحم زين، أيمن زبيب، أمل حجازي، جورج زغيب، غي مانوكيان وستراك سركيسيان الذين أكنّ لهم جميعاً احتراماً كبيراً.

ومِن المطربين الأوائل؟  

صباح، فيروز، وديع الصافي، سميرة توفيق، نجاح سلام، ومعظم مطربي العصر الذهبي للأغنية اللبنانية الذين رفعوا اسم لبنان.

يبدو أن شمس الأغنية اللبنانية المطربة نجوى كرم تخصّك باحترام كبير.

نجوى كرم، بمثابة أخت وصديقة، منذ انطلاق الأستوديو وحتى اليوم ينير صوتها الصادح فضاء مشغلي، وهذا يبعث في قلبي الارتياح.

عندما دخلنا لمحادثتك لمحنا سيتراك يدخل الأستوديو.

سيتراك بمثابة أخ وصديق رافق مشروعي منذ كان حلماً يراودني، وساندني وكان صلة الوصل بيني أنا الشاب الفتي وبين عمالقة الفن، وتشهد كل زاوية هنا في الأستوديو على تفانيه واحتضانه الأبوي لي.

ماذا عن فيروز ووديع الصافي وصباح؟

كانوا كباراً بأخلاقهم وطريقة التعامل والتواضع والانضباط واحترام ذاتهم، وإتقان العمل، فصباح مثلا كانت تتقبل الإعادة لأكثر من مرة إلى أن تخرج الأغنية بحلّتها المتكاملة.

واليوم؟

للأسف يحتاج  بعضهم إلى كل شيء ما عدا الصوت، الذي لا يملكونه اصلاً، والأنكى من ذلك عندما يخطئون لا يتقبلون أية ملاحظة ضرورية، بل يصرّون على إكمال الأُغنية. هذا الأمر يزعجني كثيراً، فأنا أتمنّى وأحرص على أن تخرج الأغنية من الأستوديو متكاملة في مجمل عناصرها، لكن للأسف لا يحصل ذلك. وكثيراً ما يتنازعني صراع بين حرصي على النوعية واضطراري لتسجيل أعمال  لم أكن راضياً عنها، لكني أضطرّ مرغماً بعض الأحيان لقبول التسجيل لجاجتي الملحّة على تلبية أعمال الصيانة ودفع ورواتب العاملين.

مواهب وإنتاج

لكن هناك شباب  موهوبين يسيرون بالمنحى الصحيح ويحرصون على تقديم الأفضل.

صحيح وأنا استقبل هؤلاء برحابة صدر وأساعدهم مادياً ومعنوياً، لكنّهم قلة ويواجهون مصاعب جمّة، خصوصاً إذا أرادوا نشر أُغنية أو كليب في وسائل الإعلام، يتطلب دفع مبالغ طائلة، وهذا ليس بمقدور هؤلاء الشبان، لأنهم يأبون الغناء في المطاعم، ولأن مستواهم الثقافي والفكري يفرض عليهم التعامل مع الفن بمنتهى الجدية.

مع مَن مِن المطربين الخليجيين تعاملت؟

بدءاً أود أن أشير إلى أن المطربين الخليجيين سباقون في كل شيء، يحترمون الفنّ ويقدّرون الشعر الجميل واللحن المميّز النابع من القلب، فهم مثقفون ويتمتّعون بالأصالة والعمق في المبنى والمعنى للكلام واللحن، ومن أبرز الفنانين الخليجيين الذين سجلوا أُغنياتهم، رائد الأغنية الخليجية محمد عبده الذي أعربَ عن امتنانه للمستوى الذي بلغه تسجيل الأغاني في لبنان، وطلب مني مساعدته في تأسيس استوديو تسجيل في السعودية. كذلك سجلت المطربة الكبيرة أحلام  أُغنياتها لدي، وكذلك المطربة شمس التي انتجت ألبوماً مع شركة AMR  ووزعتُه أنا.

وماذا عن إنتاج الأغنيات؟

ثمة عوامل عديدة تحدّ من الإنتاج، إن لم نقل تقضي عليه، فقد أضحى الكومبيوتر بديلا شرساً ومدمّراً، بغض النظر إن كان الصوت متمكناً أو لا، وبواسطة هذا الجهاز الصغير يستطيع أي إنسان أن ينتج أعمالاً في غرفة صغيرة في منزله من دون أن ينتقل إلى الأستوديو، لذلك كثُرت الأعمال الهابطة وكثُر المتعدّون على الفنّ، فأصبح عمر الأُغنية قصيراً نتيجة ذلك، ولا تعيش في الذاكرة إلا لفترة وتغيب في طَيّ النسيان.

للأسف هؤلاء يعطون صورة خاطئة عن الفنّ اللبناني في العالم العربي. والدليل أننا عندما قدّمنا مسرحية «شمس وقمر» في قطر من تأليف الفنان الراحل وجدي شيا وألحانه، مع نادين الراسي وعاصي الحلاني، دهش الجمهور من روعتها وشعر بأنّ ما تقدّمه بعض الشاشات لا يبرز مستوى الفنّ الحقيقي في لبنان.

هنا أتساءل أين هم الرحابنة وفيروز؟ للأسف غابوا بعدما سيطر منتحلو الفنّ على الساحة الفنيّة، وبعدما باتت التكنولوجيا تعمل على تسجيل الأغنيات  والألبومات والاستماع إليها مجاناً عبر قرصنتها.

لا بد من أن أُحيي في هذا المجال الفنانين الذين يصرّون على متابعة المسيرة برغم المصاعب كلّها، أذكر،  نجوى كرم، راغب علامة، عاصي الحلاني، وكل المبدعين الذين لا يتسع المجال لذكرهم هنا، إنّهم يحملون الشعلة التي أضاءها الرواد الكبار ويحافظون على توهّجها في وجه طغيان المال الذي شوّه كلَّ شيء حتى الفنّ، وبات بمقدور كلّ مَن يملك إمكانات مادية إنتاج أغانٍ وكليبات بغض النظر إذا كان صوته جميلا ويتقن فن الأداء، متّكلا على التكنولوجيا الحديثة التي تجمّل الصوت. هكذا تسير الأمور اليوم للأسف.

رغم هذا الواقع المزري، لم أفقد الأمل، ولدي مشروع إنتاج عشرين ألبوماً موسيقياً من تأليفي وتأليف الأصدقاء الموسيقيين.

وماذا عن برامج الهواة التي تحفل بها الشاشات؟

لا تصبّ في خانة المواهب، نلاحظ أن بعضهم يهجرون الدراسة ليلتحقوا بالبرامج تلك،  يبهرهم بريق الشهرة، وما إن تنتهي البرامج، حتى يدركون الحقيقة المُرَّة، فيجدون أنفسهم كأنّما لاحقوا السراب، وكانوا ضحية الشُهرة المزيّفة.

موسيقيون عالميون

هل نفتقد إلى طاقات في مجال التكنولوجيا؟

لدينا طاقات متخصّصة تتمتّع بمواصفات عالية، وأي فنان عربي يقصد لبنان للتسجيل في استوديوهاتنا يلمس مدى الابتكار الذي يتمتّع به تقنيونا اللبنانيون، ولا أُبالغ حين أقول إن معظم الفنانين العرب يفضلّون تسجيل أعمالهم في لبنان، ويشيدون بالمستوى الذي بلغناه، حتى إن الموسيقيين العالميين يقصدوننا لتسجيل الموسيقى الشرقية أو الشرق أوسطية لتمتزج بأعمالهم السينمائية والتلفزيونية والغنائية. وهذا يؤمن لنا الاستمرار وسط تلاطم الأمواج العاتية التي تقذف بالفن من ضفة إلى أخرى.  

 

ما العمل لتوعية الجيل الصاعد وتوجيهه؟

من خلال تثقيف الجيل بتربيته حسب الأصول ليتعلّم الاستماع إلى الموسيقى وتذوقها، ومن الضروري أن تُعاد مادة «الميوزيكولوجي» إلى المنهاج الدراسي كما كانت في السابق، لأن الموسيقى تهذب الذوق وتنمّي الجسد وتغذّي الروح وتدرّب الفكر على التلقّي الصحيح، وتنشّط النفس على تقبّل أمور الحياة بصورة أفضل.

وهنا يلفتني موضوع الموسيقى الكلاسيكية التي تُبث على أقنيتنا المرئية وتحزنني مناسبة بثها في ظروف الموت والكوارث. وبات المثقف المتعلم يتمنى أن يموت أحدهم (لا سمح الله) ليستمع إلى باخ أو بيتهوفن أو موتسارت، فيما هي تحتلّ مكانة مرموقة ومحببة في أرمينيا، وأذكر عندما سافرت ذات يوم إلى يريفان وأردت المشاركة بالعزف على البيانو، هالني ما سمعت، وسيطرت  رهبة الإتقان «متملكة» حواسي، تسمرت في مكاني وتراجعت عن العزف مع أنّني متمكّن وواثق من نفسي، لكن توقفتُ مشدوهاً لبرهة ودعوت أحد العاملين لدي إلى المشاركة بدلا منّي، أقولها بكل فخر، هذا الشعب يجترح المعجزات، فهو يعيش يومه الصعب إنّما بكرامة وبراعة، فهو إلى جانب كسرة الخبز وضع الكتاب والعزف والقلم ليكتمل النهار لديه، ولأنه طبعاً قرر منذ العصور الأُولى على أنَّه هو من يصنع النهار.