كان الروائي الروسي ليو تولستوي قد ترك كلية الحقوق في الثامنة عشرة من عمره، وراح يمضي لياليه في القيام بكل ما هو سيئ. رغم ذلك، كان مهوساً بضبط النفس. تشمل {قواعد الحياة} التي دوّنها بعيد تركه الدراسة: {ضع هدفاً لحياتك بأكملها، هدفاً لجزء من حياتك، هدفاً لفترة أقصر، هدفاً لكل سنة، هدفاً لكل شهر، هدفاً لكل أسبوع، هدفاً لكل يوم، هدفاً لكل ساعة، وهدفاً لكل دقيقة، وضحِّ بالأهداف الأقل أهمية في سبيل الأكثر أهمية. ابتعد عن النساء واقتل الرعب بالعمل}.

Ad

يُعتبر تولستوي رجل التعقيدات والتناقضات الكبيرة، رجل قد يفهمه والتر ميشل، بروفسور متخصص في علم النفس في جامعة كولومبيا يمثل محوراً بارزاً في أبحاث الشخصية. ويلخص كتابه بعنوان {اختبار المارشميلو} (The Marshmallow Test) عقوداً من عمله في مجال ضبط النفس. لكن فرض القواعد على الذات ما هو إلا مدخل مشوق (يُساء فهمه أحياناً). فبفضل ميشل أيضاً يمكننا أن نفهم إلى أي حدّ يؤثر الوضع لا الشخصية في السلوك، وواقع أن العزيمة وصفات غيرها لا يمكن تحديدها إلا ضمن الإطار الذي تعمل فيه.

يراقب ما يدعوه ميشل {اختبار المارشميلو}، الذي أجراه بادئ الأمر في جامعة ستانفورد في أواخر ستينيات القرن الماضي، قدرة الولد على مقاومة الحلوى عندما يُترك وحده معها. عرف المشاركون في الاختبار أنهم يستطيعون تناول الحلوى في الحال إن رنوا جرساً لاستدعاء الباحث، لكنهم سينالون الضعف إن انتظروا عودة الباحث. فانتظر الأولاد البالغون من العمر أربع سنوات ويتمتعون بكامل قدراتهم نحو 15 دقيقة، في حين أن مجموعة من الأولاد في السن الدراسية ممن يعانون {تراجعاً كبيراً} في مهاراتهم انتظروا فترة طويلة، حتى إن ميشل نفسه ما عاد يقدر على مواصلة مراقبة نكران الذات المراهق البطولي الذي أعربوا عنه.

يُعتبر الاختبار بالغ الأهمية لأن الدراسات الطويلة الأمد التي تلت تُظهر أن قدرة الولد على تأخير المكافأة ترتبط بالنجاح الأكاديمي والدخل في مرحلة البلوغ، فضلاً عن القدرات العاطفية، مثل القدرة على تحمل الإجهاد والرفض. تشكّل التحولات الفكرية {المهدئة}، التي تساعد الولد على انتظار الدقائق المؤلمة قبل تناول المارشميلو، مع تخيّل الحلوى سحابة ووضعها في إطار لتحويلها إلى غرض مجرد، أسس العمليات التي تسمح للإنسان نفسه بالبقاء مركِّزاً على المستقبل لينال شهادة في الجامعة أو الاستثمار مطولاً في خطة تقاعد. فيتمتع مَن يملكون القدرة على التأخير بقشرة جبهية أمامية ممتازة تضبط بفاعلية تفكيرهم المجرد، فضلاً عن دوافعهم.

يعكس الاهتمام الكبير بعمل ميشل هوس ثقافتنا بالوظائف التنفيذية أو غيابها. فنعيش اليوم موجة معرفية كبيرة من الاهتمام بضبط النفس والعزيمة، اللذين يشكلان أهم المهارات في قرننا الجديد. لكن المفارقة تكمن في أن دراسات الشخصية، التي أعدها ميشل والتي تحظى بشهرة كبيرة بين علماء النفس، مع أن الناس قلما سمعوا بها، تشير إلى وجود ضوابط طبيعية للتحكم في الذات. فعلى غرار معظم أنماط السلوك، يُعتبر ضبط النفس نسبياً إلى أبعد الحدود. فتتبدل الشخصية والعزيمة بتبدل البيئة ومقدار دوافع الفرد.

أنماط سلوك

كانت حياة تولستوي الشخصية حافلة بالهفوات. فقد تقاتل باستمرار مع زوجته. وما انفك ينتقد عائلته ويتطلب منها الكثير، حتى حين كان يُنادي بحب الإنسانية. قد يُفاجئ هذا كثيرين، إلا أنه لم يفاجئ ميشل. يعقتد البروفسور أن مفتاح ممارسة ضبط النفس وفهم لمَ يبدو تصرف الناس غير منطقي يكمن في إحدى أبسط الجمل: {إذا- فـ}.

لا يعكس مقدار الوعي الذي نعرب عنه في عملنا مدى الوعي الذي سنتحلى به عند دفع فاتورة، مثلاً، أو عند تفاعلنا مع مَن نحب حين نصل إلى المنزل، بل يشكل مؤشراً إلى مدى وعينا في مساعٍ ترتبط بالعمل. يقترح ميشل وزميله القديم يويشي شودا من جامعة واشنطن أن الشخصية تحصر نفسها في أنماط سلوك {إذا-فـ}. وهذا {ما يميز معظم الناس عند تأمل سلوكهم عن كثب}، حسبما يكتب ميشل. ويضيف: {تحدد خصال السلوك في الشخصية ما قد يفعله الإنسان إذا صادف أوضاعاً محددة. وقد تجلت هذه الخصال السلوكية لدى البالغين كما الأولاد، وهي ترتبط بشتى الأمور، من الوعي والتفاعل الاجتماعي إلى القلق والإجهاد}.

من الممكن تعليل الكثير مما يصيبنا بالحيرة في شأن الآخرين من خلال الخصال السلوكية، بما فيها سقوط رؤساء وشيوع الحياة المزدوجة. فيتصرف الناس {بغباء}، حين يخفقون في الإعراب عن ضبط النفس لأن جهازهم الحوفي (limbic system) يعمل في الحال. فيتصرفون {بما يخالف شخصيتهم} لأن المكافآت الآنية تتفوق على ضبط قشرة الدماغ. لذلك نرى أن رجلاً يتمتع بضبط النفس الكافي ليفوز بمنحة رودس ويصل إلى البيت الأبيض يتخلى عن سيطرته على نفسه أمام متدربة عادية. وطوال عقود، كان للطيار والمهندس الأميركي المعروف تشارلز ليندبرغ ثلاث عائلات سرية في أوروبا، فضلاً عن خمسة أولاد من آن مورو ليندبرغ.

عزل المحفزات

إن كان بإمكاننا توقع خصال {إذا-فـ}، فخطط تطبيقها تدريجية تعتمد على عزل محفزاتها بهدف التخلص منها. يذكر ميشل أن الاحتفاظ بالصحف وطلب الآراء يشكلان خطوة أساسية في تحديد النقاط الساخنة التي تزعزع العزيمة. وعند اكتشاف هذه النفاط الساخنة، يمكن لخطة ({إذا اقترب X من إذا، يضمحل ضبط النفس}) {أن تقضي على ضبط النفس}. وكلما كانت الخطة آلية، ازدادت فاعليتها.

لكن الأهم، كما يوضح ميشل وتبرهن بوضوح حياة تولستوي، أننا نتمتع بالقدرة على التغير، سواء استخدمنا التحولات الفكرية لنسكت دوافعنا {الساخنة} أو طورنا نظاماً مبتكراً يحقق إنجازات تدوم طويلاً.

لا بد من أن الرجل، الذي نجح في كتابة {آنا كارينينا} و}الحرب والسلام}، كان قادراً على التخرج في كلية الحقوق. وكان بإمكانه وضع وتحقيق أهداف تذهل معظمنا، حتى لو عمل على اختيار هذه الأهداف بطريقة انتقائية. وربما يستطيع كاتب سير ذاتية قدير على وضع خارطة بهفوات {إذا-فـ} في حياة تولستوي، بما أنها مبعثرة مثل المجرات في سماء الليل، إلا أننا نستطيع رغم ذلك توقعها. ولا شك في أننا كلنا بهذا التعقيد.

يخبر ميشل أنه صب اهتمامه على المشاركين في الدراسة الذين {أخفقوا} في اختبار المارشميلو، إلا أنهم نجحوا لاحقاً في حياتهم. ما من سبيل لنعرف ما إذا كان بالإمكان اعتبار تولستوي أحدهم، ولكن إذا صح ذلك، يعرف ميشل السبب بالتأكيد.