تلمع فكرةٌ/حكاية/حادثة/شخصية في رأس المؤلف الروائي، فيبادر، في وقت قد يطول وقد يقصر، إلى تخيل بيتٍ، أو مقهى، أو مدرسة، أو فندقٍ، أو دائرة حكومية، أو حديقة، أو مستشفى، أو غرفة سجنٍ، أو حافلة أو سفينة. لحظتها يتوجب عليه أن يفكر إن كان هو من سيقوم بنقل الحكاية إلى جمهور القراءة، أو أنه سيصنع راوياً يتولى نيابة عنه قصّ الحكاية على جمهور القراء. وعليه أيضاً أن يحدد موقع الراوي من الحكاية: زماناً ومكاناً، وبالتالي يرتب مكاناً يُجلس فيه الراوي، ليطلَّ على زمن وأحداث الرواية.

Ad

أي كاتبٍ روائي، حين تمرّ به التماعة فكرة رواية، ربما عليه في اللحظة ذاتها، أن يفكّر، أول ما يفكر، بخلق شخصية الراوي/الرواة، وأن يؤمن له/لهم مكاناً يؤويه/يؤويهم طوال سرد أحداث الرواية، وأن ينتبه تماماً إلى تباين زمن القصّ/زمن الراوي عن زمن/أزمنة الحكاية، وتباين مكان القص/مكان الراوي عن مكان/أمكنة الحكاية، إلا إذا كان الراوي، يقصّ على القارئ ما يجري عليه في لحظته، وبالتالي فلزاماً على الكاتب أن يعرّف القارئ بمكان الراوي وعلاقته بأحداث الرواية.

 قد أكون قاسياً حين أشير إلى أن كاتباً روائياً عربياً كان أو أجنبيا يتكئ على راو عليم، ليتولى سرد أحداث روايته من أولها إلى آخرها، هو كاتب غافل عما يجري من حوله، وهو بحاجة كبيرة الى النظر بعمق إلى جوهر اللحظة الإنسانية الراهنة، وإلى قفزات الإبداع والفن الهائلة، التي ما عادت تحتمل تخيّلاً كاذباً بإمكانية وجود شخصية راو عليمٍ، يعرف عن ظهر قلب حيوات بشرٍ لا صلة له بهم. 

إنني، ومؤكد أن مثلي الكثير الكثير من الكتّاب والنقاد والقراء، في مختلف دول العالم، ما عدنا نستسيغ صيغة السرد بصوت "الراوي العليم" الذي يصرّ على مصاحبتنا قسراً دون أن نتعرف على شخصه، ومكان إقامته، وعلاقته بالحكاية. الراوي العليم صيغةً من صيغ السرد القديمة، التي يجب تجاوزها والتخلص منها، وذلك عبر أشكال جديدة من الإبداع الروائي. وأكاد أكون متأكداً أن واقعنا الروائي العربي يحمل الكثير من الكتابة الإبداعية المغايرة واللافتة.

أقترح على الكاتب الروائي الشاب الذي يريد الخوض في بحر الكتابة الروائية، أن يتعرف على مناهج الكتابة الإبداعية في المعاهد والجامعات الغربية، التي صارت تُدرس الكتابة الإبداعية بوصفها علماً تشكّل الموهبة جزءاً بسيطاً منه لا يتجاوز في أفضل الحالات 4 في المئة ويأتي الجزء الأكبر منه، من حصيلة قراءات الكاتب الشاب المتنوعة، ومن انتظامه في دروس منهجية لتعلم أصول الكتابة الإبداعية وعناصرها وأسرارها.

العالم العربي، وكما باقي دول العالم، يستقبل يومياً كتابات إبداعية في القصة والشعر والرواية، وهذا يجعل من تميّز أي كاتب أمراً صعباً. وتزيد الصعوبة، حين يحلم الكاتب الشاب، برواية تشير إليه وتعلن عن ميلاده، ومؤكد أن صيغة الراوي العليم، ما عادت تستطيع حمل كاتب إلى جمهور يتوافر يومياً على نتاج روائي متنوع يحوي بين جنباته روايات مغايرة، ووحدها هذه الروايات الجديدة هي منْ سيكتب لها الخلود.

 

* هذه الورقة جزء من بحث نقدي مطول أعمل عليه لجامعة "كانغستون في لندن- Kingston University London"، وقد قُدمت في محاضرة في "معرض أبوظبي للكتاب 2015".