من أين أتى جوزف أبي ضاهر بديكه في زمن انقراض الديكة، وفي زمنِ ساحاتٍ اشتاقت إلى أن تحتضن بشهيّةٍ ظلاًّ لبيضة بلديَّة؟! نسج جوزف شبكته من شعره ذي الشّيب الحلال، ورماها عميقاً في مياه الأمس وهو منتظر غدَه «ليحرقصه» بأمسه.

Ad

 قصصٌ قصيرةٌ جدّاً. زحمة بدايات ونهايات على الورق. بين البداية والنهاية بلْعَةُ ريق. قصّاصٌ مصاب بالبُخل اللغويّ. يَصرفُ من لغته باقتصادٍ شديد. هذا هو التّحدّي. أن تقول أنت، وأن تترك لقارئك ما يقول هو. أن تترك لخياله، ولذاكرته، ولقلبه، متعةَ الإبحار والتأليف معك...

ديك جوزف أبي ضاهر، القصّاص، طالعته ريشة ريشة، فتحتُ قلبي لحنجرته فأفرغت فيه كلَّ صياحها. تألّمتُ، لأنَّ الجمال يؤلم، ولأنّي لم أكن على علم بأنَّ صاحب الدّيك يكتب عنّي وعنه. وهذه خطيئة الكبار الرائعة، أنّهم يقولون الآخرين حين يقولون أنفسهم.

 ديك جوزف متعدّد الرّيش. فلكلّ ريشة أناقة وجعٍ خاصّ.

في {ياسمين}، عطرُ الفقرِ والتشرّد طالعٌ من وجهين يبيعان الياسمين والطفولة في ليل بيروت. وحين تغيب البائعة الصغيرة، يبوح الياسمين بحزنه وحزن البائع الصغير: {ما عاد الليل اتّسع، لصغير وحده، يبيع الياسمين الأبيض، لرجال يخاصرون ليل نساء}. وفي {كسرة خبز}، أمّ تهزّ سرير ذاكرة جوزف، يشبع أولادها بقليل خبز وكثير عاطفة. أمّا هي فـ: {غلبت الجوع. كسَرَتهُ بكسرة ولو من دون زيت وملح}. وفي {مجمرة العاصفة}، بيتٌ {مسكون} تسكنه الخرافة، وعلى درجه ترقص السّماء ملوِّحة بقرون الشياطين، ويعلن خوري الضيعة الانتصار برش ماء شبع صلاةً. وفي {شجرة الجنّة}، يهز جوزف قلمه لرجل قصر يعيش عن الناس، ويشبع عنهم، ويمنع الحلمَ عن ليلهم ليحلم عنهم. وهم، تلغيهم رسمةُ شجرة على باب بيت، فتعطيهم كلّ ما يحتاجونه على الأرض، لكن بعد الموت بقليل.

وفي {من أجل تفاحة} امرأة تجوع إلى جسدها، تحاول رجلاً من المطر يكسر قجّةَ أنوثتها. حتى المطر أدار ظهره لنافذتها المفتوحة، ولسريرها الذي سيبقى مشروع سرير لأنّه بلا رجل، وحتّى ملاك الرحمة لم يحملها على ظلّه تحت قنطرة الموت: {خاف يفتضح أمره... ويُطردَ ثانيةً من أجل تفّاحة}. وفي {ذهبت إلى المدرسة ولم أدخلْها}، يقف جوزف في غابة ظلال بين طفولته وطفولة حفيده {أودن}، يرشحُ من ذاكرته زيت {عروس الزعتر والزيت} ويغطّي شاشة {الأي باد} في يد {أودن}...

كأن جوزف أبي ضاهر في ديكه الفريد يقول لنا: إذا شئتم قصّة طويلة عمر اكتبوها قصيرة، لأنّ طول القصة يأخذ من طول عمرها. ولأنّ يومنا أصبح ذا نفس قصير ويرتاح لما يشبه نَفَسه. ولا بدَّ من الاعتراف بأنَّ قِصرَ قصّة جوزف مسوّر بالعمق على بساطة شمسٍ تعانق جبلاً بيدين ترتديان عُرْيَهما فقط. وجوزف خبير في الغوص على النفسِ في أعماق صاحبها، بحثاً عن بصمة تقول بطلها، وعن معنى يجسّد قيمة يضيق صدر الشكل باحتضانه.

مقاعد الذاكرة

 وجوزف يجلس أبطال قصصه على مقاعد ذاكرته أوّلاً، يسقيهم القهوة. يقوم بواجباته معهم. ثم يوصي خياله، قبل أن يرتاحوا على بساط السّرد، بأن لا يصادر براءتهم وعفويّتهم، وبأن يبقيهم أولاد الحياة لا أولاده. إذاً، يخشى جوزف على أبطاله ضباب المجاز، لذلك، يلجأ إلى مجاز متصالح مع الحياة، ويلحّ على قلمه بأن يعتمر الوضوح تاجاً، ذلك الوضوح الذي هو منتهى الصناعة والمتعوب عليه كثيراً، ليس الوضوح الذي يضجُّ بالفراغ والتشابه والابتذال.

 وفي هذا السياق أيضاً، يراعي جوزف مزاج كلمته، فهو ديمقراطيّ معها إلى أبعد حدّ، لا يأخذها رغماً عنها إلى حيث لا تريد، إنّما يراعي شهيّتها ويتبعها، يوصِلها، في قصته، إلى حيث ترغب في الإقامة. ولغة أبي ضاهر مقطوفة من أغصان الصوت الخضراء، لا من أغصان شجرة القاموس اليابسة، وعليه، فإنه لا يمضي إلى القاموس راغباً في بعث الكلمة الميتة حيّة، لأنه لا يؤمن بدعوة الأموات إلى حفلة راقصة...

 ربّى جوزف أبي ضاهر ديكه في محبرة ذات ذاكرة عاطفيّة، فقلبه بوصلة ذاكرته، وعلى ظهر قلمه حاول تهريب أمسه من النسيان. وقال للتراب: أبي، وأمّي، والراعي، وخوري الضيعة... صاروا أنا قبل أن يصيروا أنت. إنّه شكل من أشكال التحنيط بالحبر، أو إعادة الولادة بالشدّ على رحم الكلمة لنعيد إنجاب أبطال ذاكرتنا.

 وقارئ الـ{ديك}، لا يتأخر ليعرف أن أبي ضاهر يعيش في زمن وينتسب إلى زمن آخر. لماذا؟ لأن الانسان ليس له أن يقيم روحيّاً في زمنين. لا يمكنه أن يستبدل صياح الديك بصياح الخليوي قرب التخت. وأكثر من ذلك، إن الماضي ينجح في أن يصير كثيراً وكثيفاً، وينجح في التّحوّل من حقيقة إلى أسطورة.

 {ديك} جوزف أبي ضاهر يقفز من حديقته إلى ذاكرة قارئه، وينقر ليوقظ في لحمها عسل الفرح. وإذا ما قُرئ مساءً فقصصه تطرد النوم بأجنحة نشيطة. وهذا الـ}ديك} يليق به الصياح صباح العيد على المصطبة، لا في الطنجرة، وكيف لا؟ وهو الديك الذي يُطلعُ ضوء الأمس في صباح الغد... وببضع كلمات: إنّه ديك لا يدركه ثعلبُ النسيان.

شجرة الجنّة

في قديم الحكايات، أن حاكم مدينةٍ تبعَ هواه في الباطل من الأعمال.

أنفق ما جُمعَ من مالٍ في الخزينة على رغبات وشهوات، حتّى إذا فرغت الخزينة قامرَ برهن إهراءاتِ قمح كانت تموّن مدينته والمدن المجاورة... وخسر كلّ شيء.

مدَّ الجوع رأسه إلى أبواب البيوت.

كُشفَت معاجن الخبز على فراغ. بكى الصغار وهاج الكبار.

طوَّقت الأصواتُ المحتجّةُ أسوار القصرِ.

خَرجَ الحاكم إليهم  باسماً، ليُعلن خديعة تسدُّ الأفواه على أمل. قال: من زمن ولم يَغمض لي جفن. سَهِرتُ على رعايتكم، وحمايتكُم، تأمين القوت والأمان لكم. وما حصل يخرج عن كلِّ إرادةٍ، ولكن ليس عن إرادتي. سأبعثُ إليكم بـ{رسّام» القصرِ ليرسم على أبواب بيوتكم وجدرانها «شجرة الجنّة»... هي شجرة مباركة مقدّسة، لم يُعطَ حقّ الإفادة منها إلا من أعطي رعايتكم.

ما إن ينتهي الرسّام حتّى تورقَ هذه الأشجار، وتزهرَ، وتُعطي في أيامٍ ثمراً لا ألذّ ولا أطيب. من يأكل منه يشبع عمراً، ويعيش دهراً، ولا يحتاج إلى خبزٍ تستميتون الآن للمطالبة به قهراً لجوعٍ فيكم.

بعد اليوم، لن يعرفَ الجوعُ طريقاً إليكم.

وَعَدَ، وأقسمَ... وصَدَّقوا.

تفرّقتِ الأصواتُ والنّاس، وهدأت النفوس، إلا نفَسُ رسَّام القصر، وكان سمعَ ورأى، فهزّه الخوف من داخل.

قال للحاكم:

كيف لي أن أرسم شجرَ جنَّةٍ ما سمعتُ به من قَبل، ولا عرفتُ له صورًة وشكلاً؟

هدّأ الحاكم من روعه، وسأله بخبثٍ ساخر:

أما سمعتني أقول لهم إن الجوع لن يعرف طريقاً إليهم بعد اليوم؟

بلى.

إبدأ برسم شكل غريب على أبواب البيوت وعلى جدرانها، هم أيضاً لا يعرفون شكلاً لشيء غير موجود.

ولكن...

مهلاً، قبل أن تنتهي المدّة التي سترسم فيها أشجار الجنّةِ... وستطول، يكونُ أصحابُ البيوتِ في عدادِ الأمواتِ... هل سمعْتَ يوماً أنّ الموتى يطالبون بخبزٍ لهم ولعيالهم؟

هذا كان في قديم الحكايات.

أما حديثها فتعرفونه، والتذكير به {ضربٌ في ميتٍ} و{الضربُ في الميتِ حرام}!

جوزف أبي ضاهر