سالم...

الأمهات سر الحياة. الطاقة التي تمتد من أجسادهنّ لنا، تجعل منّا قوةً لا تُهزم. كل الأمنيات التي رسمناها أصبحت أحلاماً، وكل الدعوات التي رُفعت للسماء ساهمت في منحنا السعادة، أسعِدوهنّ إن شئتم، وستجدون الطريق مبتسماً أمامكم...

Ad

***

اعتادت على ترتيب أمنياتها عند ترتيب غرفته كل يوم. تدخلها ويتسلل الشوق لها، المكان هنا يملأ قلبها بالسعادة، يُشعرها بالوجود. رغم أنه للتوِّ غادر، لكنّها تشتاق إليه، تحبّه كطفلٍ صغير يخطو أولى خطواته، كرضيعٍ بدأ أولى ابتساماته.

تضع ملابسه في الخزانة. وتُرتِّب بقايا كتبه وأوراقه. وتفتح نافذته سامحةً بدخول أشعة الشمس. كانت تفتح طريق حلمها، وتملأ يديها من أُغنياته التي ردّدتها له صغيراً.

هي مجموعةٌ من السعادة، تركيبةٌ من الحب، ارتسم على محيّاها الكثير من معالم الألم، والقليل فقط من السعادة. الجمال الوحيد الذي تسعى إليه في حياتها مستقبله. ناسية جمالها واهتمامها بنفسها أو ربما متناسية؛ فالجمال الحقيقي الذي تنشده هوَ.

تتجول في غرفته، وتتصفّح بعضاً من كتبه، تلمح تلك الخطوط التي رسمها بين السطور، والحروف التي نقشها على جدار الورق. ولو حاولت فك شفرتها ما استطاعت؛ فالأبناء يجيدون إخفاء مشاعرهم عن الأمهات دائماً. شعاراتٌ غير مفهومة، البعض منها يشير إلى الحب. قلبٌ صغيرٌ زيّن صفحةً من سعادته. تُردِّد في نفسِها، كيف كبر هذا الطفل؟ كيف أصبح مدمناً للكلمات؟ يتلاعب بالحروف كما يتلاعب بالمشاعر، ويخفيها بعد أن كان يستلقي في حضنها ليخبرها كل شيءٍ صغيراً. كلما تقدَّم بنا العمر، كلما زادتْ المساحة المغلقة من المشاعر والأسرار بيننا وبين الأمهات. يا الله سرعان ما تجري الأيام! حتى غدونا والأسرار تطوّقنا ونطوّقها من كل صوب.

رغم أن مراحله الدراسية قاربت على الانتهاء، فلم يتبقَّ منها سوى خطوة. فها هي أيامها تنقضي يوماً بعد يوم، وها هو سالم يستعد للتفوّق كعادته في كل السنوات.

أمه وضعت في مخيلتها الترتيبات والاستعدادات النهائية لحفل تخرّجه. فنحن نسبق أحلامنا بخطوة لأننا خُلقنا من عَجَل، نضحك لمستقبلنا الذي لم يأتِ بعد، متناسين حزن النهايات. عندها يغتالنا الفرح لأننا لم نعتد عليه بعد.

فكَّرَتْ أن تدعو كل من تحب ومن لا تحب لحفلة تخرُّجه، الأقربين والأبعدين، ولم يغب عن بالها أن تضع نظرها على إحداهن. ستختار له أجمل البنات، وأرفعهن حسباً ونسباً. والأم تفرح لابنها فرحتين، ولادته يوم وُلد، وزواجه يوم أن تقدِّمه لامرأة أخرى بعدما صنعته كما تريد. فها هو يكبر، وها هي أحلامها تكبر معه. كان جلَّ ما تريد أن تراه يخطو، فأصبح كل ما تريد أن تخطو هي عن طريقه.

لم يغب عن بالها أدقّ التفاصيل، والأهم تفاصيل الرقص والطرب. فسالم يريد فتاته ذات شعر طويل، ولا يمكن معرفة طول شعر البنات الحقيقي إلا على المسرح، عندما تتلقّى كل فتاة التعليمات من أمها للنـزول إلى ساحة المعركة.

كانت شاردة الذهن، كثيراً ما تفكّر تلك الأيام. وحين يسألها سالم عمّا بها وهل تُخبِّئ شيئاً بين همومها؟ لا تجيب، هو يعرفها كنفسه؛ تسرح كثيراً حينما تفكر، وتكتفي بالابتسامة.

سعادتها تكمن في رؤيته فرحاً. فرحها الأكبر هو، طبيبها الأول هو، أنفاسها، حياتها تراها تكبر أمامها يوماً بعد يوم. فها هي أحلامها تقترب.

لا يحب سالم الفرح كثيراً، فلحظات الفرح القصيرة تُخبِّئ بعدها كثيراً من الألم أحياناً. حين تستشيره بأمور حفلته لا يُجيب، هو يرى أن الاستعداد للفرح ليس بالاحتفال بل بالنجاح، فيكتفي بالابتسامة. الأمهات يعشقن التفاصيل، بينما سالم كان من عشاق الاختباء.

استعانتْ بجارتها خبيرة الحفلات. فهي تجيد تزيين كل شيء، وتصنع من الغرفة الجامدة حلماً للاحتفال. بالتأكيد هي لن تحوّل الحزن فرحاً، والحلم حقيقة. قليلون من يستطيعون ذلك، نادرون هم من بأيديهم مفاتيح السعادة.

رتبّت منيرة الكثير من مظاهر الفرح سابقاً، لكنها لم تستطع ترتيب حياة أحدهم يوماً ما. فلأفراحنا ترتيبٌ خاصٌ مع الأقدار. وللسعادة موعدٌ لا يأتي أبداً.

هاتفتها أم سالم وطلبت منها ترتيب كل شيء للاحتفال. أبدت موافقتها وأخبرتها أن كل ما عليها فعله هو الدفع، وإخبارها بأعداد الحاضرين. فالمال يصنع المعجزات، ويصنع الفرح المزيّف، لكنّه لا يصنع السعادة بالتأكيد.

في مدينة (الجبيل الصناعية) كل شيءٍ مثالي. الشوارع، الحدائق، المدارس، عدا الحياة. هنا اعتاد سالم العيش لكنّه لم يحبها يوماً ما، كان يقول لأصحابه إنه وُلد ليعيش في مكانٍ آخر. هناك حيث الضجيج بعيداً عن هذا الهدوء القاتل. إننا بشرٌ تقتلنا الرتابة من غير شعور، وتوقد في قلوبنا شمعةً تحرق دواخلنا مع مرور الزمن. لا يدري أين، ولا متى، ولا كيف سيغادرها، المهم ألاّ يعيش فيها. كانت هذه المدينة تقتله شيئاً فشيئاً. تخنقه ويرغب التنفس من جديد. لذا كان التغيير أولى الخطوات المنشودة وأصعبها. فترْكُ قطعةٍ منّا والرحيل، كفيلة بإشعال الحنين فينا.

السنوات الدراسية الأخيرة متوَتِّرة. الطلاب يشعرون فيها باضطراب وخوفٍ وقلقٍ على المستقبل. لم يعلموا أن المستقبل مكتوبٌ منذ زمن، مرسومٌ لنا الطريق إليه.

يخيفنا قبل أن يصل إلينا، تتعطل حياة البعض في انتظاره والخوفِ منه، ولو كان المستقبل رجلاً لقتلناه. ولو كان امرأةً جميلةً لما نظر إليها أحد. نخشاه خوفاً منّا، خوفاً ممّا ستجنيه علينا أنفسنا. خوفاً من أفكارنا التي لاوجود لها، خوفاً من العوائق التي نلقيها في طريقنا، وكأنّنا غير قادرين على إتمام السباق والوصول إلى النهاية. النهاية التي قطعنا لها بعضاً من أعمارنا، من أيامنا، من أحلامنا.

لم يُخفِ سالمٌ خوفه وأظهر نوعاً من القلق في أيامه الأخيرة، فطريقه الطويل لم يبدأ بعد. لكنّه كان متأكداً في قرارة نفسه أنه يستطيع، فهو قادرٌ على تجاوز كل العقبات.

كان حلمُ سالمٍ أن يكون طبيباً. حلُمه أن يعالج أمه التي تشتكي ألماً في عمودها الفقري يعاودها بين الحين والآخر ليلزمها الفراش لأيام وربما لأسابيع. لحظة رأى أمه تزحف ذات يوم متجهةً إلى سجادة الصلاة، لحظةٌ لا تنسى. يومها كانت الآلام حاضرة، والدموع مخفية، كدموع الأمهات دوماً. لا تتشكّين، ولا تسخطن. تتألمّن بصمت، والاختباء خلف آلامهنّ مهارةٌ يجدنها.

لا يُشغل سالم عن دراسته سوى حبه للقراءة والاطلاع، وحبه للأدب وللشعر ولجلسات الطرب و(السامري) أحياناً. لا ينشغل بها كثيراً، إنما يقضي جلّ وقته مع الكتب في لياليه الساهرة، يطالع حكم المتنبـي وأوصاف البحتري، وغزل عمر بن أبـي ربيعة، ويعشق شعر نـزار وحبه.

كان يختلس عطلة نهاية الأسبوع لحضور جلسات الطرب في بعض الاستراحات القريبة من مدينة الجبيل. يدفعه إليها بعض الأصحاب ممن اختارهم ووافقوا هواه.

(علي) أو كما يسميه (علُّوي) كان صاحب الطرب والوناسة و(الصياعة) إن صحَّ التعبير. وعمّار رجل الدين والمبادئ والأخلاق الفاضلة، ونقطة الالتقاء بينهما سالم.

علاقاتنا الإنسانية، يكمن جمالها في التناقض. كما نشرب الشاي مع (البسكويت) المالح، وقطعة (الشكولاته) الحلوة مع فنجان القهوة المُرّ. ربّما احتاج أحدنا إلى ذلك. يحتاج أحدنا مصاحبة جميع الأفكار والتوجهات ليذهب إلى منطقةٍ وسطى فيها مساحة للقرار الصائب. نحتاج أن نقارن ونوازن، فبعض الأفكار لن تحكم عليها ما لم ترَ نقيضها.

لا يخاف سالم من نتيجة الثانوية؛ فمعدّله مرتفع في الفصل الدراسي الأول، كل ما يخشاه بعض العوائق التي ألقيت في طريقه دون ذنب منه. اختباراتٌ جاءت لتقيس القدرات. وبعضها يهتم بالمستوى التحصيلي للطالب. ومتى كان لأحلامنا قياس ولقدراتنا اختبار؟!

هذه هي القيود الثلاثة وُضعت على كاهل الطلاب وأثقلت أعناقهم. متى ما أردنا السير إلى ما نريد، لن تمنعنا الحواجز، ومتى ما رأينا ما نريد أمامنا، لن تقف أمامنا الأوراق.

التحق سالم بدورة "لاختبار القدرات” في مدينة (الخبر)، كان يحبّها جداً، ويذهب إليها كلما ضاقتْ به مدينته المخنوقة برائحة الغازات والكبريت، وكأن القدر قد خبّأ له شيئاً هناك.

ينقضي طريق ذهابهم وعودتهم الذي ربما تجاوز الساعتين في إجراء بعض النقاشات والأحاديث في المواضيع التي تجمع بينهم وتستهويهم كالرياضة مثلاً. حديثهم عن مقارناتهم بين اللاعبين ومن هو الأفضل، يقطعه علي أحياناً بصوته النشاز مردداً بعض الألحان التي غالباً ما تنتهي بخلاف بينه وبين عمار. ويكتفي سالم بالابتسامة ومحاولات تهدئة كثيراً ما تفشل.

انقضت الأيام، ومرّت الاختبارات بسلام بالنسبة إلى سالم وعمار أما علي فتجاوز كل المواد بصعوبة كما هو متوقع. وبدأ ضجيج اختبار التحصيلي الذي كان يشكل هاجساً.

سالم تجاوزه بالدرجات العالية والمأمولة. ترك ذلك كل الخيارات مفتوحةً أمامه، هو يتردد بين الطب والهندسة، الأولى تنفيذاً لحلم أمه، والثانية إرضاءً لرغبة أبيه.

زاد من عزيمة سالم تعب أمه ومرضها في الأيام الأخيرة، وقدّم بعد تردد طويل واستشارة أوراقه في كلية الطب، عكس رغبة والده الذي كان يتمنّى أن يكون ابنه مهندساً، يعمل في إحدى تلك الشركات التي تخنق مدينة الجبيل الصناعية. لكنّه لا يعلم كره سالم لهذه المدينة، ولا يعلم بالرغبة الخفية التي يراها سالمٌ حلماً، وهي أن يقدم لأمّه الوصفة الطبية من عيادته في يومٍ من الأيام.

قرر سالمٌ أن يكون طبيباً. ومساكين هم الأطباء، يداوون جراح الناس، دون أن يداوي أحد جراحهم، يستمعون للناس دون أن يجدوا من يستمع لهم.

سرعان ما أتمّت أم سالم حجز قاعة الفندق، وقدّمت بطاقات الدعوات إلى من اختارتهم لحضور حفل تخرّج ابنها، وزّعت البطاقات للبشر، ووزعت معها كل الدعوات لربِّ البشر. كانت تدعوه ليل نهار أن يحفظ ابنها ووحيدها ويبقيه سالماً كما اختارت أن تسمِّيه.

أتمَّ سالم أوراق قبوله، وتجاوز المقابلة الشخصية بكل سهولة، والتحق بجامعة الدمام (كلية الطب) ووضع قدمه على أول الطريق.

ما كان بالأمس حلماً ها هو اليوم حاضراً.

كل أحلامنا.

كل الأمنيات.

كل الدعوات، التي أطلقناها يوماً للسماء ستعود إلينا يوماً ما على هيئة أمل.