عطفاً على مقالاتي حول استقلال القضاء المنشورة على صفحات "الجريدة" في أعدادها الصادرة في 28 /9 و12 و19 و26/ 10 نسوق من مقومات استقلال القضاء ما استهلت به المادة (162) من الدستور أحكام الفصل الذي أفرده للسلطة القضائية، وأحكامها بالنص على ضمانة أساسية يحمي بها القضاء حصن استقلاله، هي:

Ad

شرف القضاء ونزاهة القضاة وعدلهم

واعتبر الدستور هذه القيم أساس الملك وضمان الحقوق والحريات. ومن الأقوال المأثورة لسيدنا عمر رضي الله عنه قوله "العدل أساس الملك".

وكيف لا تكون ولاية القضاء أساس الملك وقد حملها الأنبياء والرسل قبل القضاة، ورسالة القضاء الأولى هي حماية العدالة.

وفي ظلال العدل، الذي هو أسمى الغايات وأنبلها قصداً، يصدر القضاة أحكامهم ليحكموا بالعدل الذي هو أعز المقدسات وأغلاها، وهم فيما يصدرونه من أحكام مدينون لربهم وأنفسهم بما يعتقدون أنه الحق الخالص، سواء أرضي بعض الناس أم سخطوا، وسواء أوافق حكمهم هوى البعض أم انحرف عنه، فليس ينبغي للقاضي أن يصدر- فيما يرى من حكم- عما يقوله الناس فيه أو ما يمكن أن يقولوا فيه... ويقول المولى عز وجل "وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ".

ويقول سبحانه مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم "وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ"، ويقول المولى عز وجل "وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ"، والعدل هو بعض ما أنزل الله إلينا في كتابه الكريم بل هو أسمى ما أنزله.

الحصانة الذاتية للقاضي

فخير ضمانات القاضي هو تلك التي يصنعها القاضي بنفسه، كما قال وزير العدل السابق المرحوم محمد صبري أبو علم في خطاب ألقاه في الاحتفال بأول قانون لاستقلال القضاء في مصر صدر في عام 1943: "خير ضمانات القاضي، هي تلك التي يستمدها من قرارة نفسه، وخير حصن يلجأ إليه هو ضميره، فقبل أن تفتش عن ضمانات القاضي فتّش عن الرجل تحت وسام الدولة، فلن يصنع الوسام منه قاضياً، إن لم يكن له بين جنبيه نفس القاضي، وعزة القاضي، وكرامة القاضي، وغضبة القاضي لسلطانه واستقلاله".

ويضيف وزير العدل الأريب فيقول: "هذه الحصانة الذاتية، هذه العصمة النفسية، هي أساس استقلال القضاء، لا تخلقها نصوص، ولا تقررها قوانين، إنما تقرر القوانين الضمانات التي تؤكد هذا الحق وتعززه، وتسد كل ثغرة قد ينفذ منها السوء إلى استقلال القضاء، هي ضمانات وضعية تقف بجانب الحصانة الذاتية سداً في وجه كل عدوان، وضد كل انتهاك لحرمة استقلال القضاء، بل إن شئت فهي السلاح بيد القوى الأمين، يذود به عن استقلاله ويحمى حماه".

وهي العبارات الرصينة التي رددتها وبالحرف الواحد المذكرة الإيضاحية للقانون رقم 10 لسنة 1996 بتعديل قانون تنظيم القضاء، والذي يمكن أن يطلق عليه– بحق- قانون استقلال القضاء.

حيدة القاضي وتجرده

وحماية العدالة لا تتأتى إلا باستقلال القاضي، ولا تكتمل لهذا الاستقلال مقوماته إلا إذا أبعدنا القاضي عن أي تأثير خارجي عليه؛ ذلك أن الفصل في الخصومة القضائية، حقا وعدلا، لا يستقيم إذا داخلته عوامل تؤثر في موضوعية القرار الصادر فيها، أيا كانت طبيعتها وبغض النظر عن مصدرها أو دوافعها أو أشكالها.

ولهذا كانت أولى الصفات وأهمها التي ينبغى أن يتحلى بها القاضي الحيدة والتجرد، بحيث لا يكون بينه وبين من يحكم له مودة يرجح معها عدم استطاعة الحكم بغير ميل أو عداوة.

إنها رسالة القضاء التي يحمل القضاة تبعاتها، وإنها الأمانة التي يجب أن يؤدوها، متحررين من كل الضغوط أو القيود أو المؤثرات أو الإغراءات أو التهديدات أو التدخلات، لا تضعفهم رغبة أو تثنيهم رهبة غير مبالين بما يحف بهم من مكاره، تلك هي رسالتهم المقدسة، ونبض حياتهم، ولن يحمل عنهم أحد وزرهم في الدار الآخرة إذا حادوا عن الحق أو تنكبوا العدل.

وقد قضت المحكمة الدستورية العليا في مصر بأن استقلال السلطة القضائية يعني أن تعمل بعيداً عن أشكال التأثير الخارجي التي توهن عزائم رجالها (جلسة 5/6/1996 الطعن رقم 34 لسنة 16 القضائية)، ولئن كانت هذه الضمانة الذاتية يضعها القاضي، ولا تكتبها النصوص، فإن المشرع يتدخل ليحمي القاضي من نفسه، وهو ما سنتناوله في مقال قادم بإذن الله.