"لولا" بشار الأسد وقمعه وإرهابه للمتظاهرين لما ظهر "داعش" بعنفه ووحشيته التي تفوق الخيال، وفي العراق عندنا خبيصة عنف وإرهاب طائفيين بعد الاحتلال الأميركي والانسحاب المبكر لقواته، فهناك ميليشيات تقتل وتدمر بعنف "ربما" لا يقل عن عنف "داعش"، لكن الإعلام لا يظهرها أو يسلط الضوء عليها مثلما يفعل مع "داعش"، فلماذا يضرب طيران التحالف الأميركي- العربي "داعش" فقط ويترك النظام الذي خلقه والمسؤول عنه؟!

Ad

الفقرة السابقة هي ما فهمته من لقاء تلفزيوني مع الصديق د. شفيق الغبرا، وما أكده شفيق صحيح في شق منه، ولكن... هل هو كل الحكاية المرعبة لـ "داعش" والعصابات الإرهابية التي على شاكلته؟!

 بالتأكيد، يمكن أن نمضي مع هذا التفسير إلى الأبعد، ونقول إنه لولا دعم الإدارة الأميركية للمجاهدين الأفغان في زمن كارتر، ثم، في ما بعد، ريغان الذي وضع نصب عينيه إنهاك "إمبراطورية الشر" السوفياتية (بتعبيره)، لما تطور هذا الجهاد، إلي إجرام "القاعدة" الذي وَجَد في تجمُّع القوات الأميركية في السعودية لتحرير الكويت المناسبة العظيمة لإطلاق مسلسل الإرهاب... وبالفعل تم، عبر سياسة الاحتواء الأميركية واستنزاف السوفيات بأفغانستان، إنهاء الدولة السوفياتية، ويمكن القول، أيضاً إن الغنم بالغرم، فمثلما غنمت الولايات المتحدة بركة المجاهدين غرمت بعدها من إرهاب المجاهدين، وغرم أكثر منها بكثير الإنسان العربي.

بهذا النهج "التفسيري" يمكن أن نغرق في أعماق التاريخ، ولا ندرك القاع وأين نقف وأين نبدأ، فكل حركة تاريخية، سواء كانت انتفاضة أو تمرداً أو ثورة، لها أسبابها "التاريخية"، فهل يصح أن نتوقف عند هذا أو ذاك السبب، ونحيل كل الشرور التي تصيبنا إلى ظروف خارجية، مثل الاحتلال الإسرائيلي للأرض العربية، أو التدخل الأميركي في العراق، أو إيغال الأنظمة العربية من شاكلة الأسد في بطشها لشعوبها، أو استمرار كثير من الأنظمة العربية الحاكمة في فسادها، أو قبل كل ذلك، نرجع كل هذا البلاء إلى اتفاق "سايكس بيكو" وتقسيم التركة العثمانية بين بريطانيا وفرنسا وخلق الحدود العربية الحالية حين رُسِمت على رمال الصحارى القاحلة؟! وهكذا نمضي في سلسلة ممتدة من التداعيات التاريخية لنفهم هذا الشكل من الإرهاب بصورته الداعشية، أو بصوره الأخرى، مثل الميليشيات الطائفية في العراق، أو بالشكل الرسمي الذي تمارسه عدة أنظمة عربية تجاه معارضيها ويأخذ هيئة حكم القانون وأمن الدولة!

عندما نصل إلى مثل ذلك، هنا، ينقلب "تفسير" الإرهاب الداعشي إلى "تبرير" له، عندئذ، تتم تبرئة الذات العربية من كل أمراضها الكامنة في عمق تاريخها وتراثها، فالحالة "الطائفية" والداعشية، ليست نتاج الأسد والأنظمة العربية فقط، بقدر ما هي نتيجة تراكمات قديمة ربما بدأت من موقعة صفين أو أبعد منها، وهي ترسبت واستقرت في الهوية العربية الإسلامية التي لم تشهد حركة إصلاح ديني كالتي شهدتها أوروبا في نهايات العصور الوسطى مع مارتن لوثر وكالفن، ولم تشهد، من جهة أخرى، المنطقة العربية أيضاً ولادة الدولة القومية الحديثة كناتج ظهور الطبقة البرجوازية بدءاً من اتفاقية وستفاليا عام 1648 وإنهاء حرب الثلاثين عاماً وحروب المئة عام الدينية.

نظام الأسد والحالة العراقية وحالة الأنظمة العربية تفسر الظاهرة الداعشية حين تتمثل بأبشع صورها بحرق ونحر البشر وتدمير التراث الإنساني في آثار العراق وسورية، لكن هذا ليس "كل التفسير" فهناك جرثومة "داعش" الكامنة في النفس العربية الإسلامية، وهي موغلة في قدمها التاريخي، هي ترفض الآخر، ويعتقد صاحبها المريض أنه وحده يملك الحقيقة الكاملة وغيره على باطل... عندئذ لا يتوقف الاختلاف في الرأي والمذهب والعقيدة عند حدود الكلام، لكنه يمتد إلى البنزين والسكاكين.