"أفعال هؤلاء ليست أفعال أهل الإسلام، بل هي أفعال غير المسلمين، ولم يلزم من هذا الحكم تكفيرهم"، كلمات مقتضبة عبر بها "الأزهر الشريف"، المرجعية السنية الأولى في العالم، عن موقفه الشرعي من تنظيم "الدولة الإسلامية" المعروف إعلاميا بـ"داعش"، رافضا تكفير تلك الجماعة المتشددة التي تمارس العنف والقتل باسم الإسلام، ما فتح باب الجدل واسعاً في مصر حول موقف الجامع العريق من قضايا التكفير، واستدعت قوى مدنية مواقف للأزهر عادى فيها رموز التنوير في قضايا فكر، ليتداخل السياسي في الديني وسط أزمة تكشف اختلاط الأوراق مصر مؤخرا.

Ad

"الأزهر"، برئاسة الإمام الأكبر أحمد الطيب، احتفظ بمسافة من مناخ التكفير السائد في المجتمعات العربية حالياً، ورغم أنه وصف "داعش" وغيرها من الجماعات الإسلامية المتشددة بـ"خوارج العصر" ولم يتأخر في نعتها بالجماعات "الإرهابية"، فإنه تمسك بعدم تكفيرها صراحة في بيان رسمي الأسبوع الماضي، وقال: "من المقرر في أصول العقيدة الإسلامية أنه لا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحد ما أدخله فيه، وهو الشهادة بالوحدانية ونبوة سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وأن الذنوب مهما بلغت لا يخرج ارتكابها العبد من الإسلام".

تضارب آراء    

فتوى الأزهر بعدم جواز تكفير "داعش" فجرت الجدل بين علماء الدين في مصر، وانقسموا بين مؤيد لموقف الأزهر ومعارض، وكل فريق يستند إلى أدلة نقلية وعقلية، فقال المدير العام لبحوث الدعوة بوزارة الأوقاف، أحمد الترك، لـ"الجريدة" إن الأزهر يحتفظ بسجله الناصع والخالي من فتاوى التكفير، وأنه وضح الرأي الشرعي بوصف التنظيم إرهابياً، وتابع: "لو أفتى الأزهر بتكفير داعش، سيتساوى مع الجماعات التكفيرية".

أستاذة العقيدة والفلسفة بجامعة "الأزهر"، آمنة نصير، وصفت موقف الأزهر بـ"الصائب"، لكنها أضافت: "نستطيع أن نقول إن داعش والجماعات التكفيرية، قريبة من الكفر، بسبب ما ترتكبه من جرائم وسفك دماء الأبرياء، لكن التلفظ بالتكفير في المطلق أمر مرعب لا يستطيع إنسان عاقل أن يتحمل مسؤوليته"، وأضافت: "المشكلة الكبرى ستكون حقاً عندما يتخذ الأزهر قراراً يجعله يعتنق فعلا طالما انتقده، وهو التكفير، فطالما ارتضينا بالأزهر مرجعية شرعية، فعلينا الامتثال لرأيه الشرعي".

"الأزهر اتبع موقف كبار الصحابة، وفي مقدمتهم الإمام علي بن أبي طالب في رفض تكفير الفئة الباغية"، هكذا قال وكيل شيخ الأزهر الأسبق، محمود عاشور، وتابع: "الصحابة رفضوا تكفير الخوارج على الرغم من إعلان كامل اعتراضهم على أسلوبهم العنيف وانتهاجهم العنف والقتل لمخالفيهم، وهو نفس الدرب الذي يسير عليه الأزهر حالياً، لأن البعض يريد أن يجر المؤسسة الدينية في مصر إلى خلافات لفظية تفتح أبواب الفتنة".

"مسلم فاسق"

الآراء المؤيدة لموقف الأزهر، لم تكن وحدها على الساحة بل إن الكثير من الأصوات خرجت من رحم المؤسسة ذاتها رافضة للفتوى، حيث قال أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة "الأزهر"، د. أحمد كريمة، إن الحكم الشرعي على جماعات العنف الفكري والمسلح بمنتهى الوضوح هو "كفار مرتدون عن صحيح الملة"، موضحا لـ"الجريدة" أن الفقهاء أجمعوا على أن فاعل المعاصي والكبائر دون "استحلال" مع إقراره بأنها معاص هو "مسلم فاسق"، أما إذا اقترن فعلها باستحلاله لها فهو "مرتد" لإنكاره معلوماً من الدين بالضرورة.

واستشهد كريمة على صحة قوله بحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "يخرج قوم في آخر الزمان حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول الناس، يقرأون القرآن لا يتجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، فمن لقيهم فليقاتلهم، فإن قتلهم عند الله أجر لمن قتلهم يوم القيامة"، وقول رسول الله: "من حمل علينا السلاح فليس منا"، محذراً من أن موقف الأزهر يمكن أن يُعد "غطاء غير مقصود" لكل العمليات الإرهابية التي تستهدف جنود الجيش والشرطة المصرية.

استغلال سياسي    

سياسياً، استغل أنصار جماعة "الإخوان المسلمين" موقف الأزهر لشن هجوم ضار على المؤسسة التي شاركت في الإطاحة بالرئيس "الإخواني" محمد مرسي في 3 يوليو 2013، حيث انطلقت قيادات بالجماعة وتحالف "دعم الشرعية" التابع لها، تتهم الأزهر بالاستقواء على جماعة "الإخوان" وحدها، بخروج الفتاوى سريعاً لإدانة "الإخوان"، واتهم شباب الجماعة "الأزهر" على مواقع التواصل الاجتماعي بخدمة أهداف القيادة السياسية.

وبينما قال القيادي الإخواني، محمد السيسي، لـ"الجريدة"، إن قرارات الأزهر وفتاويه "متناقضة"، وتستهدف قيادات الإخوان فقط، ردت "الدعوة السلفية" وذراعها السياسية حزب "النور"، ببيان للدفاع عن موقف الأزهر من الناحية الشرعية، وأثنت فيه على المؤسسة الدينية المصرية، معلنة تضامنها الكامل مع الأزهر ضد ما سمته بـ"الحرب على المشيخة"، وأضافت أن بيان الأزهر بعدم تكفير "داعش"، له أصل شرعي مستمد من موقف الصحابة – رضي الله عنهم- برفض تكفير "الخوارج".

قضية التكفير

جدير بالذكر، أن مسألة التكفير قديمة في الفكر الإسلامي، وتعود إلى الصراع الأول الذي شهده الإسلام في منتصف القرن الأول للهجرة والمعروف بالفتنة الكبرى، حيث استقرت القاعدة الفقهية على أن الحكم بالتكفير والتفسيق ليست من اختصاص البشر بل هي إلى الله تعالى ورسوله الكريم، استناداً الى مخالفة أحد أركان الإسلام أو مبادئها الرئيسية، لكن وقع الاختلاف بين المدارس الفقهية حول أي مخالفة تستحق الحكم بكفر صاحبها، وتم في التاريخ الإسلامي الحكم على عدة شخصيات فكرية بالكفر والردة أشهرها: الحسين الحلاج المتصوف، وشيخ الإشراق السهروردي المتفلسف، اللذان قتلا بحجة تكفيرهما من السلطة السياسية وفقهاء عصرهما.

«المشيخة» تهاجم الهلالي: انحرف وخالف النّص

لم يكتف "الأزهر" بإبداء غضبه من ردود الفعل المستنكرة لرفضه التكفير، بل أعلن على لسان وكيل المشيخة، عباس شومان، تمسكه بموقفه، إلا أنه أشار إلى أن حمل السلاح لمواجهة "داعش" مباح، وشن هجوماً عنيفاً على أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، الدكتور سعدالدين الهلالي، الذي خرج ليرد عملياً على فتوى "الأزهر" بالحديث عن أن "المسلم هو من سالم، وليس من نطق بالشهادتين"، إلا أن بيان الأزهر الصادر الأسبوع الماضي، وصف رأي الهلالي بـ"فكر منحرف فيه مخالفة جريئة للنصوص الصريحة من الكتاب والسنّة".

الهلالي عبّر عن استيائه من هجوم الأزهر على شخصه، قائلاً لـ"الجريدة" إنه يلوم "الأزهر" على التطوع للدفاع عن "داعش"، مضيفاً: "إذا أردنا مواجهة داعش، فعلينا أولا هزيمة الكهنوت الديني"، مطالبا بمعاملة "الأزهر" كهيئة علمية لا وصاية لها على المجتمع، وأضاف: "الجدل حول التكفير يعود بنا إلى القرون الوسطى المظلمة".

«الفتوى» تتسبب في استياء مدني وخيبة أمل

لم تتقبل بعض القوى المدنية والشخصيات الدينية في مصر فتوى الأزهر التي وصفته بـ"المتراجع"، واستدعت مواقف للأزهر بدا فيها محرضاً على تكفير بعض كبار المبدعين المصريين طوال القرن العشرين، ابتداء بالشيخ علي عبدالرازق، صاحب كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، الذي أنكر فيه أن تكون الخلافة من أركان الإسلام، فتعرض لحملة من شيوخ الأزهر وتم تجريده من وظائفه، مروراً بطه حسين مؤلف "في الأدب الجاهلي"، ونجيب محفوظ صاحب "أولاد حارتنا"، الذي تعرض لمحاولة اغتيال بناء على رفض الأزهر لتلك الرواية، وسكوته عن دعاوى التكفير التي طالت أديب نوبل- ثم موقف الأزهر المتشكك من الدكتور نصر حامد أبوزيد، مفكر الهرمنيوطيقا وتفكيك النص المقدس، والذي تم التفريق بينه وبين زوجته بدعوى قضائية، عقب حملة قادها علماء دين.

وليس انتهاء بالمفكر فرج فودة، الذي سقط قتيلاً في 1992، بناء على بيان صادر من كيان يدعى "جبهة علماء الأزهر"، ثم لم يجد الشيخ الأزهري محمد الغزالي حرجاً في الدفاع عن قتلة فودة بالحديث عن أنه من حق أفراد الأمة إقامة الحدود عند تعطيلها، وأنه لا يجوز قتل من قتل فودة.

استياء التيارات المدنية من موقف الأزهر الأخير، عبّرت عنه صراحة سمر فرج فودة، ابنة المفكر المقتول، في اتصال هاتفي مع "الجريدة"، والتي أبدت اندهاشها من فتوى الأزهر الأخيرة، قائلة: "سبق للأزهر أن أخرج بعض قيادات شرعنت التكفير بل كفرت بعض المفكرين، مثلما فعل محمد الغزالي، الذي تولى منصب مدير الدعوة والإرشاد بالأزهر، ومنصب وكيل وزارة الأوقاف، فكفر والدي ودافع عن قتلته"، واصفة امتناع "الأزهر" عن تكفير "داعش" بـ"الكارثي".

وبينما أعلن عدد من المثقفين المصريين على صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي عن خيبة أملهم، بعد توقف الأزهر عن تكفير "داعش"، واستدعوا مواقف المؤسسة الدينية المعارضة للكثير من المبدعين، أبدى المخرج خالد يوسف اندهاشه من انزعاج المثقفين من موقف الأزهر، قائلاً عبر صفحته على "فيسبوك": "لا أفهم لماذا انزعج البعض من بيان الأزهر بعدم تكفير جماعة داعش؟، وهل يملك من الأساس منح صكوك الإيمان أو أختام التكفير لفرد أو لجماعة".