في جديده «عَيشة بنت الباشا» للشاعر العراقي سعدي يوسف، حضور لافت للمكان، وحوار عميق مع الذات ومعه، رغبة في الاستعانة بالماضي على الحاضر المستوي على عرش الفجيعة، البادي وكأنّه رأس شجرة غريب عن جذورها لتغدو القصيدة رسولاً بين هذا الرأس وهذه الجذور يحاول رفع راية لمعنى واحد بينهما، معنى يعيد الانتماء إلى خصوبته.

Ad

قد يكون المكان صالحاً لاحتضان التاريخ بما فيه من ناس يتفاعلون مع الزمان والأرض. فهو شكل من أشكال الذاكرة بالنسبة إلى من يهوَوْن قراءته استرجاعاً للأمس تحت وطأة ألم الواقع والزمن الراهن. وهكذا تتحوّل الأمكنة نصوصاً رمزيّة من حجر وتراب، ومرايا نترك فيها إلى جانب صورة الماضي بعضاً من فسحات لصورة المستقبل.

في جديده «عَيشة بنت الباشا»، يزور الشاعر العراقي سعدي يوسف قلعة الحصن، في حمص، هارباً من الزمن الهشّ إلى زمن الصلابة، لعلّه يحظى بنشوة الارتقاء والارتفاع: «أسير إلى القلاع.../ أجيء نحو الصّخر من قِدمي/ أثبّت في متنون حزوره قدمي. أقول:/ لعلّني أرقى. وأصعد خطوة في إثر أخرى»... والقلعة فارغة من ذاتها، ويوسف يريد استعادة امتلائها، ويعرف أنّ المكان تحوّل، وتنازل عن حجارته لتصير أكواخاً، وجنوده تنازلوا عن لمعان سيوفهم ليمسوا من أهل التجارة، والتجّار يبيعون ويشترون سيوفاً، غير أنّهم لا يضربون بها أبداً: «أحجارُكَ الأولى التي كانت تدافع عنك صارت منبتاً لمحيط أكواخ/ وفلاّحوك صاروا الجند،/ جُندُك أمسوا متعهّدي خيل وماشية»... والزمان في المكان الذي يقصده الشاعر جثّة هامدة، مكفّنة بالذكريات، والفجر ضلّ طريقه وسقطت من يده النار التي تلتفّ عمامة على رأس البرج: «وهذا الفجر يبدو ضائعاً/ يا فجر أين الفجر؟ في مثل الفجاءة كان رأس البرج متّقداً / وكان الضوء يأخذ شكله/ والضوء رأس البرج»...

إلاّ أنّ هذا الفراغ الصاخب لا يدعو يوسف إلى مغادرة المكان، إنّما يفتح له باب الخيال والحلم واسعاً، فينتظر فرساناً آتين من فوق، مسترجعاً زمناً كانت فيه السماء تحارب وتصبغ عباءات الأنبياء بالدماء: «قد يهبط الفرسان من سفن الملائكة، الحدود قريبة حتّى الملامسة/ الحدود بعيدة حتى الجنون»...

ويستمرّ يوسف محمولاً على بساط ريح لا يرتاح إلاّ لسماء الأمس، ويصل إلى بشر أسطوريّين خارجين من صدر التاريخ بعدما تركت عليهم يد الله بصماتها: «سيأتيني ملائكة بأجنحة/ وعمّال بأجنحة/ وفلاّحون في أثواب ريش»...

وفي العقبة، في عمّان، يواصل الشاعر الشدّ على يد الأمس ليرويه من ماء لا يعاد، ويستسلم بكلّ ما فيه من وجدان للمكان المحتضن فراغه: «ليس في القلعة أحد/ ليس ثمّة حارس آثار/ البحر وحده»... ويعلّق على ترميم القلعة التي صُبَّت مئذنتها بالإسمنت... ويقول: «القلاع لا تولَد مرّتين». نعم، القلاع تكون لمرّة واحدة، ما يعني أنّ التاريخ لا يقول نفسه في الزمن مرّتين، وأنّ القضايا، مهما عظُمَت، تتعرّض لتغيير يطاولها شكلاً ومضموناً. وما الماضي سوى زمن يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى أسطورة ويصير إلى حلم لا يعود.

أمّا الشاعر فيكتفي، على سعادة، بإعادة نسج المشهد وإخراجه من كتاب التاريخ إلى ساحة القصيدة: «الفرسان المسيحيون، ثبّتوا خطوتهم الأولى إلى ما لن يبلغوه إلى الأبد: مكّة وشعابها. / المغيرون المسلمون ثبّتوا في هذه القلعة الملتبسة خطوتهم الأولى إلى ما لن يتركوه أبداً: بلاد الشام وأشجارها»...

شاهد لا يتغير

وإذا كانت الذاكرة تتعب أيضاً مثل أصحابها، فإنّ يوسف حين تتصبّب ذاكرته عَرَقاً يلجأ إلى لحظته، ويمدّ عينه إلى أعماق الطبيعة التي تبقى شاهداً لا يتغيّر، ولا يتنازل أو لا يفرغ، ولا يساوم... وبالعين يقبض على كثير من الفرح: «لكنّ كلّ السماء المحيطة بي/ تنشر الآن قمصانها الأرجوان/ نصف تفاحتي غاب/ لكنّني مثل خيّاطة الحيّ/ ما زلت أطوي على ساعديّ السماء/ وقمصانها الأرجوان». ويدلّ يوسف بإصبعه على العرب الذين لم يطلعوا من عقدة الصحراء ولم يشفوا من الرمل، لينتسبوا إلى الكون ويشاركوا في صناعة الحياة: «تُحكم شوكة الصحراء وخزتها/ وتدفع سُمَّها فينا/ فننسى كلّ ما في الكون»... ويتألم لتبخّر الناس، إذ إنّ المواطن العربيّ غير موجود، إنّما ثمّة عشائر، والعشيرة تتقلّص لتصير مقيمة في شيخها، ذلك الشيخ البعيد عن همومها... إذاً إنّ الحلم مؤجّل، والحياة مؤجّلة، والعودة إلى بناء الزمن المهدَّم مؤجّلة: «والعقبة خالية على عروشها/ العشيرة أمست شيخاً/ والشيخ في الحاضرة البعيدة/ كلّ شيء مؤجَّل مثل ديون الجنود»...

أنين العراق

ويحضر للعراق أنين في صدور مفردات يوسف، كما في قصيدة «لعنة العراق» التي تجسّد فكرة الإلغاء الدمويّ من خلال القول المأثور: «نتغدّى به، قبل أن يتعشّى بنا». فيرى الشاعر أنّ العراق تاريخيّاً عاش مأساة الغداء التي لم تنجِّه من مأساة العشاء، من سومر إلى آشور، ومن الزنج إلى صدّام: «ها هي ذي الحكمة الأبديّة عند العراقي/ من سومر الماء حتى جلاميد آشور/ من ثورة الزنج حتى مذابح صدّام»... وبهدوء العارف يسأل يوسف أخاه العراقيّ الخروج من هذه الحكمة اللعنة، والرجوع إلى لغة القلب والانتماء بعيداً من خرير أنهار الدماء الأحمر، وبعيداً من المقصلة اليوميّة التي تعب التاريخ من حمل دمها في عنقه: «أيّهذا البسيط العراقيّ.../ أنت شقيقي/ إذاً، أنا لستُ عدوّك/... كن لحظة أنت/ كن لحظة مثلنا». ويطرح السؤال نفسه. مَن هم المقصودون بـ{مثلنا»؟ كأنّ يوسف بـ»نا» المتكلّمين يعلن رمزيّاً أنّ الحلول الدينيّة لن تصلح لعراق السلام، إنّما يجب التوجّه إلى مشروع آخر يبدّي الانتماء إلى الأرض والمواطنيّة على سائر الانتماءات، دون أن يعني ذلك أيّ إساءة إلى الدين، وأيّ إلغاء له.

وفي لندن، يلتقط يوسف أنفاسه، وينزل بعضاً من التاريخ عن ظهره، ويبوح بحبّ تغلّفه الأغنية العراقيّة، فيفتح باب لغته لامرأة تحمل الحبّ إليه ببلل شفتيها: «مطر الصيف، حبُّكِ/ ما بلَّل الشفتين اللتين تريدان»... ولأنّ تلك المرأة منتمية إلى الماء، فالصيف لم يعد على الفصول أميراً، إذ لا شيء أجمل من أنثى ترتديها سحابة: «والصيف ليس أمير الفصول!/ السحابة أنتِ/ إذاً/ أنت منذورة للهطول».

وعلى رصيف الحبّ الذي لا آخر له، يعترف يوسف بأنّ المرأة والقصيدة في علاقة تحوّليّة دائماً، فما أكثر النساء اللواتي يتركن ذواتهنّ للإقامة في القصيدة، في حين أن الشاعر يريد المرأة لحماً ودماً أيضاً ولا تشبعه أنثى من مفردات العسل والماء تسمّى: القصيدة، «أَوَ كُلُّ من أحببت صِرْنَ قصيدة؟/ ... ما أخيب المسعى/ ... فكن عند الحبيبة/ لا تكن عند القصيدة وحدها»...

في «عَيشة بنت الباشا»، ألمان: ألم الأرض ومَن عليها، وألم الحبّ، وفي ظلال هذين الألمين مَدَّ سعدي يوسف حِبره على حرير القلب، مؤدّياً جملة شعريّة لا تزال تشبهه كثيراً وتتّسع لوجهه المتعدّد على خصوبة.