عندما رفعت محكمة مصرية جميع التهم الجنائية الموجهة إلى الدكتاتور السابق حسني مبارك في نهاية نوفمبر، وصف كثير من النقاد تلك الخطوة بمثابة المسمار الأخير في نعش "الثورة" التي أطاحت بمبارك في فبراير 2011، وفي هذا الإطار ذكرت القناة الإخبارية "سي إن إن" أن "الثورة المصرية ماتت"، كما قال والد ناشط قُتل خلال الانتفاضة لصحيفة "نيويورك تايمز"، "إن ثورة يناير قد انتهت، لقد قضوا عليها"، وفي أعقاب الإطاحة بأول رئيس مصري منتخب بحرّية في يوليو 2013 والصعود اللاحق لعسكري سابق آخر لرئاسة الجمهورية، جاءت نهاية قضية مبارك الجنائية لتبدو وكأنها خطوة أخيرة تُضاف إلى سائر الأحداث المعادية للثورة المصرية التي شهدتها البلاد.

Ad

ومع ذلك، فإن هذه النظرة تسيء فهم ما كانت تعنيه ثورة "ميدان التحرير" بالنسبة إلى كثير من المصريين، ولا سيما من هم في الوسط السياسي في البلاد، الذي يتألف بغالبيته الساحقة من أشخاص ذوي خلفية ريفية وتقليدية، وإن لم تكن بالضرورة إسلامية، وبعيداً عن رغبتهم في الإصلاحات السياسية الثورية بعيدة المدى التي جسدها مفهوم "الربيع العربي"، فإن الكثير من هؤلاء المصريين أيدوا أكثر هدفين أساسيين للثورة هما: إنهاء حكم مبارك الذي استمر مدة 30 عاماً ومنع خلافة ابنه جمال.

من وجهة نظرهم، كان مبارك قد حكم ببساطة لفترةٍ طويلة جداً، كما أنّ محاولته الواضحة لتنصيب ابنه جمال خلفاً له كان لها طابع فرعوني استبدادي، وبالنسبة إلى هؤلاء المصريين، فإن "الثورة"، كما يشيرون إلى الانتفاضة، لم تمت مع الحكم الذي نتج عن قرار المحاكمة في التاسع والعشرين من نوفمبر، وذلك لأن مبارك لا يزال خارج سدة الرئاسة، ومنذ الإطاحة بمبارك، كان هدفهم هو العودة إلى الحياة الطبيعية، حتى لو كان ذلك لا يرقى إلى الديمقراطية.

ومن الصعب تحديد مدى توسع انتشار هذا الاعتقاد، إذ إنه من المعروف أن عمليات استطلاع الرأي ضعيفة في مصر، كما أن الجيش المصري استخدم سيطرته على وسائل الإعلام الحكومية للحد من اندلاع مزيد من النشاط الثوري بعد سقوط مبارك؛ أضف إلى ذلك أنّ النظام الحالي قمع المعارضة إلى حدٍ كبير.

لكنّ المسألة في الواقع عبارة عن شعور كان كاتب هذه السطور قد واجهه مراراً وتكراراً خلال عشر أو  أكثر من رحلات البحث التي قام بها إلى مصر على مدى السنوات الأربع الماضية، وإنه من المفيد فهم السبب الرئيس لعدم موت "الثورة" في التاسع والعشرين من نوفمبر، فالبلاد لم تشهد ثورة حقيقية في المقام الأول، وإن ما أرادته كتلة رئيسة من المصريين هو: الاستقرار، كما يعرّفونه، بدلاً من الإصلاحات المؤسسية العميقة المطلوبة لتحقيق ثورة حقيقية.

وفي الواقع، فخلال كل التطورات السياسية الكبرى التي شهدتها البلاد على مدى السنوات الأربع الماضية، برر كثير من المصريين تصرفاتهم وأولوياتهم بـ"الاستقرار"، وفي هذا السياق رحبوا بتولي الجيش السلطة بعد سقوط مبارك، واثقين من أن الجيش هو قوة استقرار، ومن المنطلق نفسه دعم كثير منهم الفوز الساحق لجماعة الإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية في 2011 - 2012، وفوز الرئيس السابق محمد مرسي بفارق بسيط في الانتخابات الرئاسية في يونيو 2012، معتبرين أن "الجماعة" هي حركة سياسية منظمة تنظيماً جيداً يمكنها أن توفر الاستقرار، وهو مصطلح استخدمه "الإخوان" باستمرار خلال حملاتهم المختلفة، وعندما أثارت محاولة مرسي الاستيلاء على السلطة في نوفمبر 2012 سخطاً عاماً وأشهراً من الاضطرابات السياسية، رحبت كتلة كبيرة من المصريين بشكل مماثل بالانقلاب العسكري الذي أطاح به في منتصف 2013، معتبرة ذلك الانقلاب قوة استقرار أيضاً، ويغضب هؤلاء المصريون في الوقت الحالي عندما يطلق الآخرون (بصورة صحيحة) على عملية الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي بأنها "انقلاب"، لأن الديمقراطية الإجرائية لم تكن قط الهدف الأساسي الذي كانوا يسعون إليه.

وبالتأكيد كان لدى النشطاء الشباب الذين حفزوا انتفاضة "ميدان التحرير" وجهة نظر مختلفة جداً، فقد أرادوا ثورة حقيقية تصلح بشكل تام النظام السابق، وقد ترددوا في مغادرة "ميدان التحرير" حتى بعد سقوط مبارك، إذ رأوا أن نظام مبارك لم يكن عبارة عن رجل واحد وعائلته فحسب، بل شمل مجموعة كاملة من مؤسسات الدولة القمعية التي بقيت راسخة في مكانها؛ لذا، ففي الأشهر التي تلت الإطاحة بمبارك، تظاهر النشطاء مراراً وتكراراً ضد الحكم العسكري الذي خلفه، ونظموا هجمات متعددة على وزارة الداخلية، ولكن، مع كل جولة جديدة من جولات التعبئة، وجد النشطاء أن عددهم يتقلص، حيث ركز الإسلاميون على الحملات الانتخابية في حين أراد الوسطيون وقفا فوريا لجميع النشاطات الاحتجاجية.

ولكن في الأشهر الأولى التي تلت الإطاحة بمبارك، كان لا يزال لدى هؤلاء النشطاء صرخة واحدة تمكنهم من جذب أعداد كبيرة إلى "ميدان التحرير" وهذه الصرخة هي: "حاكموا مبارك ورفاقه!" وعلى الرغم من أن الكثير من المصريين لم يروا أن هناك فائدة تُذكر في محاكمة مبارك، وهو دكتاتور سابق يبلغ من العمر 82 عاماً وليس هناك احتمال بأن يعود إلى السلطة، فإنهم لم يعترضوا على الفكرة أيضاً؛ لذلك، ومنذ أواخر مارس 2011، نظم النشطاء مظاهرات تطالب باعتقال مبارك، وخوفاً من أن يصبح هدفاً للثورة القادمة، امتثل الجيش لمطالب المتظاهرين واعتقل مبارك في 13 أبريل، وحقيقة اتهام مبارك سياسياً ساهمت بلا شك في إسقاط التهم الموجهة إليه في التاسع والعشرين من نوفمبر.

ورغم ذلك، وبعد أن بدأت محاكمة مبارك، نادراً ما تمكن النشطاء من تعبئة الجماهير بأنفسهم، وفي الوقت نفسه، بعد أن أدرك الحكم العسكري ابتعاد النشطاء عن الجمهور المصري الأوسع، قام على نحو متزايد بقمع المظاهرات الجارية بقوة وحشية، فقد قُتل العشرات وجُرح الآلاف في العام الذي أعقب الإطاحة بمبارك، وتصاحب ذلك مع حد أدنى من الغضب الشعبي خارج صفوف النشطاء، وعندما حظر النظام الحالي بفعالية التظاهرات الحاشدة في العام الماضي، قامت قاعدته الكبيرة من محبي "الاستقرار" بالإشادة بشكل طبيعي بهذه الخطوة.

ومن المرجح أن يتوارى دعم النظام الحالي ضمن هذه الشريحة من السكان، إذا لم يستطع الرئيس عبدالفتاح السيسي توفير الاستقرار السياسي والاقتصادي، لكن حتى إذا نجح في ذلك، فمن المرجح أن يبقى دعم التغيير المؤسسي بعيد المدى- وهو ما يشكل ثورة حقيقية- محدوداً داخل مصر، ويُذكر أن الفوضى العنيفة التي تجاوزت ثورات "الربيع العربي" الأخرى، كما هي الحال في سورية وليبيا، هي بالضبط ذلك النوع من المستقبل الذي يفضل العديد من المصريين تجنبه، ولكن حتى قبل اندلاع هذه الحروب الأهلية، كان الكثير من المصريين حذرين بالفعل من الثورة، وراضين بالاكتفاء بإسقاط مبارك.

إريك تراجر Eric Trager