تروي إحدى النساء أنها لم تعد تستطيع تناول اللحوم بعد عودتها من رحلة إلى الهند. حتى إنها فقدت نشاطها وباتت تنفر من اللحوم وتشعر بأنها تتناول جيف الحيوانات... رغم تراجع استهلاك منتجات اللحوم بنسبة 30% خلال الأشهر الأربعة التي تلت الأزمات الصحية المرتبطة بظاهرة جنون البقر (1996 و2000)، والحمى القلاعية عند الأغنام (2001)، وإنفلونزا الطيور (في نهاية عام 2005)، يبقى استهلاك المنتجات الحيوانية مرتفعاً: خلال خمسين سنة، تضاعف هذا الاستهلاك مقابل انهيار مستوى استهلاك البقوليات والحبوب بنسبة 75% و50% على التوالي.

Ad

نزعة متزايدة

وسط الأنغلوسكسونيين، كان النظام الغذائي النباتي يُعتبر بديهياً (8% في المملكة المتحدة، 12% في الولايات المتحدة)، لكن بقيت هذه النزعة غير شائعة في بلدان كثيرة أخرى: على أرض الواقع، لم ينتشر {التيار النباتي} إلا وسط شريحة ضئيلة من الناس. كان هذا الوضع يتعلق تحديداً بالفئة التي تتمتع بقدرة شرائية مرتفعة، أي الجيل الذي لم يعرف معنى الحرمان، وبالتالي لم ينقل هذا الشعور إلى الأجيال اللاحقة. لكن بدأ الميل إلى تفضيل النظام النباتي يتوسع اليوم. أجرى بعض الباحثين تحقيقاً دام أكثر من سنة في المزارع الصناعية، فوصفوا الأهوال التي تحصل خلال تربية الحيوانات في تلك الأماكن وناشدوا باتباع ممارسات مسؤولة مع مراعاة وضع الحيوانات والبيئة.

لم تعد حقوق الحيوانات ومعاناتها تهمّ النباتيين حصراً بل إنها تؤثر بجزء أكبر من الناس. في الوقت نفسه، بدأت اللحوم التي كانت ترمز إلى الرفاهية والنجاح الاجتماعي، من دون أن تترافق مع الخضراوات بالضرورة، تفقد مكانتها الملكية. لم يعد أكل اللحوم (رمز ذكوري للسلطة والقوة الجسدية والطاقة المتجددة) يناسب صورة الشخص الرشيق المعاصر الذي يركز على تنمية طاقته الداخلية.

الجانب الصحي

بدأ عدد كبير من الأطباء واختصاصيي التغذية، وحتى خبراء السرطان، يسأل عن الجوانب الصحية لأكل اللحوم. لا شك في أن كميات الفيتامين B12 والفيتامين D والحديد التي يسهل استهلاكها تلبّي حاجة غذائية حقيقية. لكن يمكن إيجاد هذه المغذيات في منتجات حيوانية أخرى تزامناً مع استهلاك الحبوب والخضراوات. على صعيد آخر، ذكرت إحدى الدراسات أن الأشخاص الذين يأكلون أكبر كمية من اللحوم الحمراء واللحوم المتحولة (مثل اللحم المقدد) يصابون بسرطان القولون أكثر من الذين يستهلكون كمية صغيرة منها بنسبة 35%.

منذ ذلك الحين، شددت دراسات أخرى على وجود أحماض دهنية مشبعة من شأنها تعزيز الإصابة بأنواع أخرى من السرطان (سرطان الثدي والمستقيم) وأمراض القلب والأوعية الدموية وداء السكري. يميل استهلاك اللحوم أيضاً إلى {زيادة حموضة} الجسم، ما يؤدي إلى التعب وضعف العظام والأوتار. لكن يجب التنبه إلى أن تقليص استهلاك اللحوم أو حذفها نهائياً من النظام الغذائي لا يكفيان للحد من إصابات السرطان، بل يجب الإكثار من أكل الفاكهة والخضراوات لملاحظة أثر حقيقي على نسبة الإصابة بالأمراض.

عند المقارنة بين المنافع والمخاطر، يتبين أن القيمة الغذائية لشرائح لحم البقر بدأت تتراجع. يؤدي الغذاء الغني بالأوميغا 6 وظروف تربية المواشي إلى إضعاف صحة الحيوانات. تحصل هذه الأخيرة على اللقاحات وعلى كمية مفرطة من الأدوية والفيتامينات الأخرى.

أخيراً، يعطي استهلاك كمية مفرطة من اللحوم آثاراً ضارة على كوكب الأرض. وفق منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، يؤدي إنتاج اللحوم عالمياً إلى 20% تقريباً من انبعاثات غازات الدفيئة. يُستعمل ثلث هذه الكمية في المأكولات التي نستهلكها. كذلك، يجب استعمال 3800 ليتر من الماء للحصول على كيلوغرام من اللحوم، مقابل 1300 ليتر لكيلوغرام من حبوب الفطور و900 ليتر لكيلوغرام من البطاطا. لتقليص نسبة انبعاث الكربون، يوصي معظم الخبراء بتخفيف استهلاك اللحوم. حان الوقت لإدراك الأضرار المرتبطة بالإنتاج المفرط للبروتينات الحيوانية ولتغيير سلوكنا الفردي.

نحو إنشاء أخلاقيات غذائية

كيف يمكن ألا نهتمّ بالموضوع أمام هذه الحجج التي تثبت يوماً بعد يوم أن تقليص استهلاك اللحوم ينعكس إيجاباً على صحة الأفراد وكوكب الأرض عموماً؟ هل يعني ذلك بالضرورة أن نصبح نباتيين؟ يمكن أن يصبح الفرد نباتياً لكن من دون فرض هذا القرار على الآخرين. وفق الخبراء، يجب ألا يكون الأكل النباتي موقفاً أخلاقياً، بمعنى أن يربط أكل اللحوم بسلوك غير أخلاقي. لكن يؤدي النباتيون دوراً أساسياً في هذا المجال، وهو إطلاع {آكلي اللحوم} على عواقب استهلاك كمية مفرطة من اللحوم.

الهدف ليس الترويج للحمية النباتية، بل توعية الإنسان كي يأكل اللحوم بطريقة أخلاقية، أي التشجيع على {استهلاك محدود للحوم}، أو حصر استهلاكها مثلاً بالاحتفالات والمناسبات الخاصة، شرط تناول لحوم الحيوانات التي تم التعامل معها برفق. اتخذ كثيرون قراراً بالتركيز على استهلاك الخضراوات والفاكهة، إلى جانب بعض البروتينات الحيوانية التي تشتق من منتجات عضوية أو ماشية عالية الجودة. هذا النظام النباتي الذي يُطبَّق في وقت جزئي، أي أنه يستثني اللحوم غالباً لكن يتابع استهلاك البيض ومشتقات الحليب والسمك، وحتى الدواجن أحياناً، بدأ ينتشر على نطاق أوسع. حتى إنه أطلق مفهوماً غذائياً جديداً: {النظام النباتي الجزئي}.

وراء هذه المصطلحات كلها، ثمة فكرة بسيطة: يجب الاعتياد على تقليص استهلاك اللحوم التي يمكن أن تؤثر بدرجة كبيرة على بيئتنا وصحتنا!

ما البديل؟

لا ضير من التوقف عن أكل اللحوم شرط استهلاك الكميات الضرورية من البروتينات والحديد للحفاظ على التوازن الغذائي. تشكل البروتينات 20% من الكتلة العضلية وهي التي تبني جسمنا. كذلك تشكّل الطبقة العظمية التي يترسخ عليها الكالسيوم وتؤدي دوراً أساسياً لحماية وظائف مختلف الأعضاء. لهذا السبب، تُعتبر الكمية التي توفرها البروتينات أساسية ولا يجب أن تتراجع لأي سبب، وإلا ستظهر أعراض التعب وفقدان الكتلة العضلية أو تراجع مقاومة الجسم.

في ظل هذه الظروف، يختلف وقف استهلاك اللحوم عن قرار الامتناع عن جميع البروتينات الحيوانية، لأن هذه الخطوة تعني المجازفة بحرمان الذات من الأحماض الأمينية الأساسية التي لا تكون موجودة بالضرورة في البروتينات النباتية. ينطبق ذلك على الحبوب التي تفتقر إلى مادة اللايسين أو الخضراوات المجففة التي تفتقر إلى مادة الميتيونين.

 بشكل عام، تحتوي الخضراوات، باستثناء فول الصويا، على كمية أقل من البروتينات مقارنةً بمحتوى اللحوم. أخيراً، تُعتبر اللحوم الحمراء مصدراً ممتازاً للحديد الهيمي (يرتبط بالهيموغلوبين والميوغلوبين في الأنسجة الحيوانية) الذي يسهل أن يمتصه الجسم أكثر من الحديد غير الهيمي الذي يشتق من النباتات. بالتالي، يكفي أن يضمن طبق الطعام توفير الكميات الضرورية من البروتينات والحديد. لاحظ اختصاصيو التغذية أن الناس الذين كانوا يعجزون عن الحصول على اللحوم، في جميع أنحاء العالم، توصلوا إلى خلطات غذائية كاملة ومتوازنة جداً لسد هذا النقص.

خلطات مناسبة

يمكن أن تكون الأطباق الأكثر بساطة كاملة غذائياً أكثر من غيرها: الكسكس المؤلف من الحبوب والحمص والخضراوات؛ الأطباق الهندية المؤلفة من الأرز والعدس (يجب طهوهما معاً)؛ أطباق أميركا اللاتينية المؤلفة من الأرز والفاصولياء الحمراء. كي يمتص الجسم الحديد بطريقة أفضل، يكفي الجمع بين كمية صغيرة من الحديد الموجود في السمك أو البيض كي يتم امتصاص الكمية الموجودة في الخضراوات بفاعلية أكبر. يمكن تحقيق ذلك مثلاً من خلال الخلط بين البيض المسلوق وسلطة البقلة (إنها الخلطة الأكثر غنى بالحديد).

على صعيد آخر، يعزز الفيتامين C امتصاص الحديد النباتي. لذا من المفيد الجمع بين العدس وسلطة الحمضيات ونوع من النقانق وحبة كيوي للتحلية خلال وجبة الطعام. كذلك يمكن استبدال بيضتين مسلوقتين على شكل عجّة بطبق رئيس من اللحوم. مثل جميع أنواع الدواجن، يوفر الدجاج والحبش كمية بروتينات توازي تلك الموجودة في اللحوم الحمراء. للحبش ميزة أساسية، إذ يمكن تحويله إلى روستو أو اسكلوب أو لحم مقدد لتناول أطباق متنوعة بدل الاضطرار إلى استهلاك الطبق نفسه دوماً. ينطبق الأمر عينه على الصويا المتعددة الجوانب (الألبان، الحليب، جبنة التوفو، شرائح اللحم، الفطائر)، فهي تسمح بتنويع الأطباق اللذيذة بكل سهولة.