الذاكرة تتبع الإنسان أينما حلّ، حتى لو هرب إلى جهات العالم الأربع! و"غالب" بطل رواية القندس تخرق تلك الذاكرة الملتهبة كيانه الهشّ رغم الوجود العدمي الذي يسبح فيه، ورغم الفواصل الجغرافية الهائلة التي تفصل مدينة "بورتلاند" الأميركية عن الرياض.

Ad

ورغم رغبة "غالب" العارمة في نسيان حفر الذاكرة ومستنقعاتها الآسنة، فإنها تتسرب إليه حتى وهو يتأمل حيواناً غريباً مثل "القندس" لا يعيش إلا على ضفاف الأنهار في بيئات لا تمتّ إلى مسقط رأسه الرياض بآصرة ما. فتتجمع كل ملامح "العائلة" من أم وأب وأخ وأخوات في جوارح هذا الحيوان الرطب النادر أمام عينيه، وهو يراه منشغلاً ببناء مملكته، ومنكباً على قرض الأخشاب، وجمع الأحساك لتكون الأركان متينة والسدود منيعة. تماماً كما كانت تفعل "القنادس" من أفراد عائلته، بيد أنها كانت مجرد سدود مادية صفيقة من المال والوهم، لم تصنع كياناً ولم تخلق آصرة، اللهم إلا الجفوة والحرص المبطن بالقسوة.

في سياحة "محمد حسن علوان" في تفاصيل ذاكرة بطله "غالب" جاذبية آسرة لا تدري من أين تأتيك رغم بساطة الأسلوب وتلقائيته. ولعل سر تلك الجاذبية يأتي من تلك المسارب الذكية في أعماق الشخصيات، وبلمسات متقنة وسريعة، وكأنك إزاء لوحة لا تضجرك بالتفاصيل بقدر ما تسحرك بالإشارات الموحية. يكفي أن تقرأ الحوارات المبتورة بين "غالب" وأبيه أو تلك المتلكئة بينه وبين أمه، والملغومة غالباً بمزيج من التحفظ والتحمّل والمكابدة والمراوغة، لتدرك مدى سماكة السدود وغلبة اليأس وتأزم المشاعر التي تكابدها جميع الأطراف، لتتخبط بمزيد من سوء الفهم وتقطّع الجسور.

"غالب" الذي يبدو في سياق الرواية كالمنبتّ الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، أو بتشبيه آخر كغريب "كامي" لا يهمه الربح ولا الخسارة بالمفهوم الوجودي، لم يكن نتاجاً لأسرة متأزمة بالطلاق وتعقّد العلاقات فقط، وإنما أيضاً نتاجاً لمجتمع وبيئة مسوّرين بالتحفظ والرياء والقحط العاطفي، إلى جانب ما تشهدانه من تقلبات اقتصادية وثقافية وأمنية تمسّ نمط حياة الإنسان، وتشكّل توجهاته الفكرية.

وحين يتحدث "غالب" عن تجارة أبيه أو ثروته "المشكوك بها"، أو عن تنقلاتهم من منطقة سكنية إلى أخرى بفضل بحبوحة العيش، أو عن تديّن أخيه المفاجئ، أو عن الحالات النفسية التي تمرّ بها أخواته، أو عن الأساطير التي حيكت حول جده ومقدار ما فيها من أوهام وأكاذيب، فإنه بلا شك يرسم المهاد البيئي والمجتمعي الذي يمكن في النهاية أن يتمخض عن شخص مثل "غالب"، اكتفى أخيراً باللامبالاة والتفرّج على هذه المشاهد، وبالعكوف على تأمل حياته الضائعة الخاملة والخالية من المعنى.

وحتى حين يخص "غالب" جزءاً كبيراً من بوحه حول غادة وقصة الحب "المشكوك فيها أيضاً"، فإنه يجعل من "غادة" صنو نفسه، أو الوجه الآخر لشخصيته. فهي مثله مهلهلة المشاعر، تفتقر إلى المعنى في الحب والحياة. فرغم زيجتها المريحة والآمنة من دبلوماسي أتاح لها التنقل الحر بين عواصم العالم، فإنها تظل متأرجحة بعلاقة هلامية مع "غالب"، تلتقيه بين زمن وآخر من أجل أحاديث مبتسرة وعلاقات سريرية متعجلة وسمجة. فكانت غادة بمعنى من المعاني ليست سوى مرآة لوجهه المليء بالبثور والعيوب، والذي لطالما كرهه وانزوى به بعيداً عن المرايا، أو صنو لسانه الذي ابتلي بالتأتأة فلم تستقم له كلمه أو خطاب إلا بشق النفس.

ورغم هذا البوح الذاتي لشخص كره نفسه وألقاها في متاهة الحياة بلا هدف أو أمل، لا يملك القارئ إلا أن يحبه ويربّت على كتفه بتفهّم جمّ. فأنت إزاء هذا الإبحار المرهف في زوابع النفس البشرية لا تملك إلا أن تقترب وتنصت لأحزانها وآلامها، وإلا أن تتأمل عراكها مع الآخر متكبّدة أوجاع العلاقة وما تفضي إليه من خدوش في القلب والعقل والذاكرة.