السعادة هي طريق وليست محطة نصلها...

كنت حديثة العهد بغربة خامرتني بعدما نفضت عن كتفي غبار وطن منسي مركون في زاوية الذاكرة، ولأجل هذه الغربة الغضة حزمت حقائب قلبي وقلت الوداع يا وطناً يضمر حريقاً لكل من انتسب إلى فصوله، وها أنا قادمة لأطرق باب اللاانتماء...

Ad

ولكن عبثاً كنت أحاول الخروج من شباك صياد يحترف المناورة...

كنت هاربة من بلادي لأنجو من سلطة الوطن باحثةً عن الحرية، وفجأة وجدت نفسي أبحث عن وطني حيثما حللت...

غادرت بلادي في غفلة عن الوطنية، وقصدت بلداً آخر حيث لا أحزاب، لا مزايدات، لا شيء إلا الصمت... الذي لم أحلم سوى بالحصول على حقي في الامتلاء به.

كنت أو لم أكن، المهم أنني وجدت نفسي أرتمي في حضن الوطن موحى إلي بأنني بين يدي أمير يحترف حماية المظلومين...

في ذلك الزمن من الفوضى الداخلية، في زمن اللاوطن قابلته... هو الذي ما كنت أظن أنه سيكون ذكرى بعد مزيج من الأحلام أعدناه معاً.. هو... حيث أنا كنت لا شيء من دونه... ولاحقاً أدركت أنني ما كنت شيئاً بقربه...

أتيت إلى دنياه أو هو أتى إلي،

في بداية علاقتي به كان في نظري شخصاً عادياً، ولكن فجأة أدركت أني لم أكن قد عرفته من قبل، يا لها من حياة تتحين فرص إدهاشك حيثما تكون إرهابياً من الدهشات المتكررة في وطن بات يهوى المفاجآت.

كنت في أحد المقاهي الشعبية عندما رأيت بريقاً أخضر يحدق إلى عينيّ فيجتاحني ويدخلني عنوة؛ كانت عيناه في ذلك اللمعان المهووس بالإغواء السافر، عيناه اللتان اخترقتا كياني من دون أن تتركا أية إشارات إنذار لتتلقفها أجهزة المراقبة الداخلية الخاصة بقلبي.

عيناه..

ذلك الساحر الذي جردني من غروري الأنثوي الذي يدفعني لتجاهل نظرات الفضول المجتاحة- عادة- جسدي، ذلك الساحر الذي دفعني مجبرة إلى تبادل نظرات الإعجاب- ربما- معه. كان الوقت عند الغروب- فأنا لا ولن أنسى منظر الشمس المحترقة في كبد السماء التي أشار إليها معجباً في أول حديث بيننا- وعندما وجدته يتجه نحو طاولتي التي اخترتها عمداً معزولة عن أعين الفضوليين التي تسأل عن قصة اغتراب كل شخص وحيد بطريقة مكشوفة دونما أية مراعاة لذات الإنسان الجالس أمامهم.

أيمكنني تناول قهوتي معك؟

كان سؤاله مباغتاً مع أنني كنت أراقبه وهو متجه نحوي؟

تفضل.

ما كنت أنا من أجاب، بل كان قلبي ذاك الذي سقط في أول شباك نصبه الحب له.

تأملني قليلاً ثم قال كأنما لتخفيف ارتباكي:

كنت أنتظر أحدهم، ولكنه لم يأت، فوددت لو أحادث هدوء عينيك الصامت.

لم تقاوم وجنتاي رغبتهما في الاحمرار الذي فضح مبادلتي لمشاعره.

حسناً أهلاً، وأنا في الحقيقة كنت أنتظر أحدهم...

لم أكن على موعد إلا مع الصمت الذي غيبه ظهور هذا الرجل في حياتي، والذي علمت في ما بعد أن اسمه حسام.

أنا حسام من سوريا، رأيت فيك ملامح سورية لا يمكن أن أخطئها ولهجتك أيضاً..

هل أنا محق؟ أقصد هل أنت من سوريا؟

نعم أنا من سوريا (لماذا أعود إلى وطني كلما هربت منه؟).

اسمي بيسان، منذ متى وأنت تعيش هنا؟

بدأ الحديث بيننا وكأننا كنا على موعد مسبق؟

منذ خمس سنوات، لقد وجدت فرصتي للنجاح والعمل في هذا البلد، ولي نية العودة إلى بلدي الأم بعد أن أصبح قادراً على التوقف عن السعي، أي بعد أن أحقق الكفاءة المادية...

وأنتِ

خجلت من عمر غربتي الصغير لم يتجاوز بضعة أشهر. فالانتماء إلى بلد منذ حدوث الربيع العربي الذي لك يجلب، براي الكثيرين، سوى الخريف والدمار للأرض والعرض هو أمر محرج لصاحبه الذي يكون مجبراً غالباً على إبداء موقفه السياسي، والذي عادة ما يكون غير مقبول خارجياً، إذا لم يحتو على أي استخدام للسلاح، أو لم يتسبب بقتل أو رفض أو ردع؛ فوقوفك مع أحد طرفي النزاع يجعلك مذنباً... الحق أن تعلن وقوفك ضد الطرف الآخر، وطبعاً تمنع الحيادية في أمور حساسة مثل هذه.

لهذه الأسباب مجتمعة تهربت من الإجابة، ووجهت دفة الحديث باتجاه الكلام عن الطقس، حديث كل عصفورين لم يغردا معاً من قبل.

الجو هادئ اليوم يدفع للاسترخاء والتأمل أليس كذلك؟

نظرت إلى حيث كانت عيناه تتجهان وهو يقول:

يا لهذه الدنيا التي تجمعني بحمرة ورود الجوري في غيابها.

وإذ به يتحدث عن شمس أوشكت تغيب.

أدهشتني ملاحظته، فقبله لم ألحظ غواية الجوري المتقنة. في ذلك الوقت فقط، عرفت معنى أن يهدي عاشق وردة جوري إلى معشوقته.

فجأة، وكأنما أدركنا معاً أن الوقت أدركنا، وأننا جلسنا أكثر مما يجب بالنسبة إلى اثنين لا يزالان يختبران ما يمكن أن تكون عليه جرعات الحب الأولى بينهما، نهضنا، وقبل أن يغادر أعطاني بطاقة تحوي أرقام هواتفه ومهنته.

هو محام إذاً، لم يكن عقلي ليحمل فكرة أن يكون كذلك، لأن المحامين أسياد فن الكذب والتضليل، فهل تراه يريد أن يضللني بحبه ذلك المغناطيس الوسيم؟

عدت إلى المنزل وعيناه في حوزتي وكنت غائبة عن الوعي تماماً. دخلت المنزل من دون أن أنتبه لوجود أمي في غرفة الاستقبال، فلم ألق عليها التحية مما دفعها لسؤالي بشيء من الدهشة:

ما بك؟

لا شيء أمي... مرحباً، أنا حقاً آسفة، لم أنتبه لوجودك، كنت أفكر في طلابي... لديهم امتحان اليوم.

دخلت غرفتي وأنا أتشبث بآخر نظرة رمقني بها خوفاً من أن تهرب مني، ورحت أتأمل رقم هاتفه وكذلك اسمه المكتوب بكثير من الزينة. قلت لنفسي: أكره غرور المحامين، يستحيل أن يكون محامياً، إن في المسألة التباساً ما. ثم ضحكت من نفسي لتفكيري الساذج وتذكرت وأنني في أيام الدراسة كنت المحاربة الأولى لفكرة التعميم التي تسود مجتمعاتنا العربية، والتي تجعل الصفة الظاهرة في شخص ما منطبقة على كل أفراد مجموعته. أعادني هذا التفكير إلى أيام الدراسة وإلى الجولات الكلامية الني كانت تشتد بيني وبين علي حول هذا الموضوع؛ علي ذلك الصديق الذي لا ينسى كان من أعز أصدقائي، وقد بنينا أنا وهو وصديقتنا سما مشاريع لا تحصى، وصممنا على تنفيذها معاً، لكن ويا للأسف غيبته ظروف الحرب التي سادت البلاد ودفعته إلى ترك عمله والانضمام إلى جمعية سياسية كان هدفها تقريب وجهات النظر بين الدولة والمعارضة، وكانت نهايته كما كثيرين من الشباب... اغتالوه.

كان ذا سبعة وعشرين ربيعاً حينما نصبت له مجموعة مسلحة كميناً على الطريق المؤدي إلى بيت حبيبته في ذلك الوقت، والذي أصبح الآن معقلاً لإحدى المجموعات المسلحة.

أما سما تلك الصديقة العزيزة فقد هاجر أهلها إلى أحد البلدان العربية المجاورة فاضطرت إلى المغادرة.

عدت إلى واقعي وتذكرت أنني لم أحضر الدروس لطلابي الذي يعتقدون بأن اللغة الفرنسية شديدة التعقيد، فانصرفت أبحث بين كتبي عما يغذي عقولهم ويدفهم إلى حب هذه اللغة التي تفتح أمامهم مجالات كثيرة للعمل، ولكن عبثاً حاولت تحقيق الانسجام مع الكتب المصفوفة أمامي، فعقلي رفض كل شيء عدا التفكير في ربيع عينيه.