شاع في الآونة الأخيرة في أدبيات الفكر والإعلام تعبير "التسامح"، وراج رواجاً ملحوظاً، للتعبير عن محاولة قبول الآخر المختلف. ويكاد هذا المصطلح التعبيري يقتصر في إقليمنا العربي والإسلامي على الإشارة إلى التسامح الديني والعرقي حصريا، أو هكذا تم التعامل معه وفهمه، بينما مصطلح التسامح، كما يُطرح عالمياً، أوسع من هذا الفهم الضيّق.

Ad

ويمكن لأي ناطق بالعربية أن يدرك أن كلمة "تسامُح" باشتقاقها الحديث لا توجد في القواميس العربية مطلقاً، وإنما يوجد الجذر اللغوي "سَمَحَ" و"أسمَحَ" ومعناه: جاد وأعطى عن كرم وسخاء. وكذلك "تسامَحوا" بمعنى "تساهلوا"، كما جاء في لسان العرب والقاموس المحيط ومختار الصحاح، ولعلها الأقرب في لمس المعنى العام وليس الدقيق. أما مصطلح "التسامح" (Tolerance) كما يُتداول عالمياً، وكما ورد في قاموس أكسفورد، فيعني "التعايش والتحمل على مضض"، ولعل هذا المعنى هو الأقرب إلى الواقع المعيش والأكثر دلالة على المقصود، بينما المعنى المتداول عربياً يميل إلى التخييل والتحسين غير الواقعيين. فالمختلفون لا يمكن لأحدهما أن يتنازل عن جزء من كينونته الثقافية أو العرقية أو الدينية، ويسمح للآخر أن يحتلها أو يمازجها، وإنما هي اللياقة وسعة الأفق وربما القوانين المدنية التي تدفع الفرد إلى قبول التعايش مع المختلفين وتحمّل اختلافاتهم، وهذا يكفي لسيادة السلم الاجتماعي والنفسي.

ولعل رواج مصطلح "التسامح / Tolerance" عالمياً في العقود الأخيرة على وجه التحديد جاء متزامناً مع أطروحات العولمة وآليات تداولها وفرضها، رغم المحاذير والتحفظات على قبول هذه العولمة بمفهومها الغربي. وقد شهد الفكر العالمي وما زال يشهد جدلاً وحوارات ثرية ومتناقضة حول مفاهيم "القرية الكونية" وإفرازات العولمة وأدوات التقارب الثقافي بين الشعوب والأمم. ثم ما تمخض عنه هذا الجدل من رؤى لعل أشهرها في هذا المقام نظريتي "نهاية التاريخ" و"صدام الحضارات" بما تقترحانه من تصورات إيجابية أو سلبية حول مستقبل العالم وعلاقات أفراده ودوله.

فقد افترض فوكوياما في نظرية "نهاية التاريخ" أن المنظومات العالمية السياسية والاقتصادية ستتلاقى وكذلك منظومات القيم. ورأى أن الرأسمالية والديمقراطية قد فازتا، ولا توجد قوى في الأفق يمكن أن تتولد عنها أحداث مهمة. أما صمويل هننجتون فيعتقد باستمرار الاختلاف، وأن العالم على حافة صدام حضارات بين جماعات ثقافية رئيسية من بينها شرق آسيا والإسلام والغرب. وذلك بسبب اختلافات لا يمكن التوفيق بينها من حيث القيم والنظرة إلى العالم.

وبين قطبي هذه المعادلة هنالك رؤية تبدو توفيقية ومتفائلة، ترى أن العالم يمكن أن يكون على طريق التلاقي والتقارب وليس التنافر والصدام. ويمكن التمثيل على ذلك بشواهد ملموسة، منها قبول الشرقيين للكثير من منتجات الغرب واسعة الانتشار، سواء في الفكر أو الموسيقى والفنون أو المأكل والملبس وأنماط الحياة. وفي المقابل، بات الغربي يتقبل أدبيات الشرق وفلسفاته، ويقبل على الأطعمة الشرقية والعلاجات الصينية والرياضات الروحانية وما إليها. وإذا كانت الممارسات والقيم والمعتقدات الاجتماعية والأفكار العلمية مآلها إلى تلاق فيمكن لنا أن نتوقع أن الاختلافات في عمليات الفكر ستبدأ هي الأخرى في التلاشي، وأن الشرق والغرب يمكن أن يسهما في نشوء عالم هو مزيج وخلاصة لأفضل ما في كليهما. وبذلك يمكن أن نجد منطلقاً صلباً يصلح قاعدة "للتسامح" بين الثقافات والشعوب من وجهة نظر متفائلة.

(يتبع...)