في المقال السابق تطرقنا إلى طبيعة المرحلة التي سبقت ثورات «الربيع العربي»، ثم انتهينا إلى أن الدولة المدنيّة الديمقراطية هي الحل المطلوب، ففيها يأخذ الصراع السياسي بين القوى الاجتماعية المختلفة مجراه الطبيعي، حيث احترام الاختلافات بين البشر، وحماية حرية الرأي والتعبير، فتتعايش فيها سلمياً جميع المكونات السياسية والاجتماعية، إذ لا إقصاء لأي طرف مادام ملتزماً بالقواعد العامة المتوافق عليها وطنياً.

Ad

والآن ما مقومات بناء الدولة المدنيّة؟

قبل الحديث عن مقومات بناء الدولة المدنيّة ينبغي تأكيد أنها لا ترفض الدين، كما يروّج البعض، ولا تقف منه موقفاً سلبياً، بل على العكس من ذلك تماماً، فهي تحترم جميع الأديان والمقدسات الدينية، وتحافظ على الموروث الثقافي والديني مع حفظ حرية النقد الموضوعي، وتوفر الحماية اللازمة كي يقوم الناس بممارسة شعائرهم الدينية.

أما مقوماتها الأساسية فهي:

1. الدستور، وهو الإطار العام ذو الطابع والتوجه المدنيّ الديمقراطي المتوافق عليه وطنياً، أي أن المواطنين أنفسهم من خلال تصارع الأفكار والرؤى البشرية، هم من يضعون دستورهم، الذي يتضمن القواعد العامة لبناء نظام حكم ديمقراطي، إذ لا يحدد الدستور فقط كيفية الوصول إلى السلطة العامة (صناديق الاقتراع والانتخابات العامة) وطريقة تداولها، بل ومشروعية ممارستها أيضاً، كما أنه يحدد فصل السلطات العامة وعلاقة بعضها ببعض من جهة، وعلاقتها بالناس وحقوقهم وواجباتهم من جهة أخرى.

في الكويت لدينا دستور مدني يُوفّر الأسس الأولية لبناء دولة دستورية ديمقراطية، بالرغم من أوجه القصور التي يعانيها أو الانتقادات الجدية التي من الممكن أن تُوجه إليه وحاجته إلى تطوير كان يفترض أن يتم بعد خمسة أعوام من بدء العمل به كما تنص المذكرة التفسيرية.

2. إشهار العمل السياسي وتنظيمه على أسس مدنيّة ديمقراطية وبرامج وطنية عامة، حيث لا ديمقراطية ولا نظام ديمقراطي من دون عمل سياسي مُشهر ومُنظّم. وفي هذا السياق فإن المسمى الذي يحمله التنظيم السياسي غير مهم هنا، فالمسميات مجانية وبعض التنظيمات الفاشية تحمل أحياناً مسميات مضللة، إذ إن المهم هو طبيعة الفكر الذي يحمله والقوى الاجتماعية التي يمثلها، أي الفئات أو الشرائح أو الطبقة الاجتماعية التي يدّعي أنه يمثل مصالحها ويدافع عنها، وهو ما ينعكس عادة، أو يفترض أنه ينعكس، في برامجه الاقتصادية- الاجتماعية، لأن أي تنظيم سياسي من دون برنامج اقتصادي- اجتماعي هو تنظيم صوري أو ورقيّ لا قيمة له.

وغني عن البيان أن عدم إشهار العمل السياسي المؤسسي، وتنظيمه على أسس مدنية ديمقراطية وبرامج وطنية عامة نتج عنه تكاثر الجماعات الطائفية والقبلية والعنصرية لدينا وهي جماعات تعادي، بحكم طبيعة فكرها الإقصائي، الدستور والدولة المدنية وبعضها يحمل مسميات براقة، لكنه يفتقد إلى الأسس المدنية الديمقراطية الصحيحة التي من المفترض أن يقوم عليها أي تنظيم سياسي ديمقراطي حقيقي، سواء من ناحية طبيعة البناء التنظيمي أو المضمون الاجتماعي.

هذا الوضع السياسي المُشوّه نتج عنه فوضى في الحياة العامة تشبه «الفوضى الخلّاقة» في المنطقة العربية، وهو المصطلح الذي أطلقته الإدارة الأميركية في وقت سابق، والذي يعني خلق فوضى مقصودة بغية تسهيل عملية إدارة الصراع والتحكم فيه وتوجيهه بحسب الوجهة التي تريدها أميركا أو القوى المسيطرة.

3. نظام انتخابي ديمقراطي عادل يسمح بتمثيل حقيقي يعكس الواقع الفعلي على الأرض بحيث يخرج من صناديق الاقتراع مَن يمثل الناس حقيقة، بحيث نستطيع القول بعدئذ، وبكل ثقة ومصداقية، إن هذا التنظيم السياسي أو ذاك قد حصل على أغلبية أصوات الناخبين وبإمكانه تشكيل الحكومة البرلمانية في حالة النظام البرلماني، أو أن الرئيس قد حصل على أعلى الأصوات في حالة النظام الرئاسي ليقوم بعد ذلك بتشكيل حكومته.

إذاً، تقوم الدولة المدنية على دستور مدني ديمقراطي الطابع والتوجه، وتنظيمات سياسية مدنية، سواء من ناحية بنائها التنظيمي الديمقراطي أو من ناحية برامجها الوطنية العامة، ونظام انتخابي ديمقراطي عادل.

وهنا، هنا فقط، أي بعد استكمال هذه المتطلبات اللازمة التي يفترض أن يتم التركيز عليها حالياً، وبالذات إشهار العمل السياسي ووجود نظام انتخابي ديمقراطي عادل، نستطيع الحديث عن إمكانية قيام نظام برلماني كامل. أما رفع شعار ما يُسمّى «حكومة منتخبة» (تحدثنا عن التباس المصطلح في مقال سابق) في ظل الوضع السياسي الحالي المشوّه وقبل استكمال المتطلبات أو الأركان الضرورية للنظام البرلماني، فهو، في أفضل أحواله، مجرد شعار عاطفي وغير واقعي لن يؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى والدوران في الحلقة المفرغة ذاتها التي أرهقت الوطن.