صباح اليوم، يصدر حكم محكمة النقض المصرية النهائي في ما أطلق عليها قضية القرن، وهي القضية التي يمثل فيها الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك ونجلاه جمال وعلاء، ووزير داخليته حبيب العادلي و6 من رجاله بتهمة قتل المتظاهرين والفساد السياسي.

Ad

هذا الحكم ينتظره المصريون على مختلف مشاربهم، هناك من يتمنى التشفي، وهناك من يؤمن بالعكس، ويتمنى البراءة، ولكن الحكم سيصدر ويحسم الأمر قضائياً، لكن ما لن يستطيع حسمه هو تقييم فترة حكم مبارك ومدى مسؤوليته سياسياً، بل وجنائياً أيضاً في أمور عدة، وكما قال مبارك نفسه في خطابه الأخير قبل التنحي من "أن التاريخ هو من سيحكم على الجميع".

ما أود التوقف أمامه اليوم ليس التقييم السياسي ولا التعليق على الفعل الجنائي -إن وجد- ولن أشارك في رهان التوقعات حول الحكم الذي قد يكون صدر وأنت تقرأ هذا المقال الآن - عزيزي القارئ-، لكن ما أتوقف أمامه هو استغلال هذه اللحظة الفارقة لأحاول الإشارة إلى ميزة كانت لدينا كمصريين وفقدناها، وقد تكون اللحظة مناسبة لاستعادتها.

لم أنس تعليق صديق خليجي على ما رآه من تغيّر في الشخصية المصرية وهو يتابع كيف تحوّل جزء كبير منّا إلى منطقة التشفي والانتقام، وبدا هذا واضحاً في المرحلة الأولى التالية لسقوط النظام، وبدء مسلسل المحاكمات، وعلى رأسها محاكمة مبارك في المرة الأولى، عندها قال صديقي هذا: "الأزمة التي يعانيها الشعب المصري أنه لأول مرة نراه وقد فقد أهم صفتين فيه، الصبر والتسامح".

قد يختلف البعض حول تقييم مبارك، لكن من الظلم والتجاوز أن نقلل من قيمة ودور الطيار حسني مبارك، هذه حقيقة لو آمنا بها لكانت علامة مهمة وواضحة على أن المجتمع في طريقه إلى الارتقاء لمستويات أعلى وأكثر إنسانية في التعامل مع أبنائه، مهما كان موقعهم.

 ولم أنس أبداً أيضا تعليق أحد الأصدقاء الإنكليز أثناء مرحلة "تجريس" مبارك ومحاكمته ونقله من بيته إلى المستشفى، ومنه إلى القفص الذي بني له خصيصاً تحت إشراف الوزير المختص وقتها، ثم إلى السجن، وقتها تساءل صديقي متعجباً: "ألم يحارب مبارك يوماً مع الجيش؟" فأجبته، بل شارك في ثلاث حروب منذ حرب السويس عام 1956، ثم حرب يونيو 1967، ثم أخيراً حرب أكتوبر 1973 التي تعد بحق الانتصار الأهم في تاريخ العرب.

تعجب الرجل مما يتعرض له مبارك وقتها من مهانة قائلاً: "لو أنه في بلادنا لكان الوضع مختلفاً، هذا رجل حارب ووضع روحه على كفّه، ليس مرة ولكن مرات، وهذا له قيمة كبيرة أن تكون محارباً من أجل بلدك".

ويعتقد العديد -وأنا من بينهم- أن حساب السياسي على الأخطاء مكانه الفعل السياسي وحكم التاريخ، والفعل السياسي هنا يمكن تنفيذه من خلال أدوات التغيير الديمقراطية، أو من خلال التظاهر ضده أو العصيان المدني، أو خلعه من السلطة أو حتى الانقلاب عليه، لكن لا أتفق على أن من بين أساليب المحاسبة والعقاب لما يعتقد أنها أخطاء سياسية استخدام أدوات العدالة لتوقيع عقاب انتقامي، تحت مسميات مختلفة، لكنها جميعاً تنتهي إلى اتباع سلوك غير حضاري لتحقيق الانتقام وشفاء الغليل.

حكم مبارك مصر ثلاثين عاماً، هناك من اعتبرها ثلاثة عقود من الظلام والدكتاتورية وامتهان الكرامة الإنسانية وسنوات من النهب والفساد والتراجع، وكل التعبيرات المرادفة لهذه المعاني، وهناك على طرف آخر، وهم قطاع كبير، من يعتقد أن الرجل أصاب وأخطأ، وحاول فأصاب النجاح مرات، وخاصمه مرات أخرى.

 ويعتقد هؤلاء أن مبارك لو كان قد قرر الانسحاب من الحياة العامة عقب وفاة حفيده والجراحة الكبيرة التي أجريت له، لكان قد سطر اسمه في التاريخ بحروف أبدية، ولكان صاحب موقع متميز في نفوس المصريين.

إذاً، وكما نرى، هناك اختلاف مفهوم على تقييم دور مبارك، أما ما لم يكن مفهوماً فقد كان هذا الهجوم الكاسح والمتجاوز ليس على مبارك الرئيس، بل على مبارك الطيار المقاتل، فخرج البعض يسفّه دوره في حرب أكتوبر، بل ووصل الأمر بالبعض أن يسفه دور الطيران المصري في الحرب، ويدعي أن كل ما ذكر عن دور "سلاح الطيران" كان من قبيل المبالغة والنفاق لقائدهم الذي أصبح رئيساً لمصر.

سيصدر الحكم، وسيستقبله كل طرف انطلاقاً من موقفه، سيسعد من يسعد ويتحفظ من يتحفظ، ويبقى الحكم للتاريخ.