دائما ما يكتب الكاتب ويتحدث الجميع حول ما يريده الشعب من النظام، ولكن هل سألنا أنفسنا: ماذا يريد النظام من الشعب؟ فكما أن هناك مطالب للشعب فإن هناك أيضا مطالب للنظام يريدها من الشعب، وكي نعرف ما يريده النظام فمن الطبيعي التعرف على الخلفية الحياتية والثقافية للنظام، وباعتبار النظام الحاكم نظاما عسكريا فمن الواجب أن نبحث قليلا في الجانب الفكري للحياة العسكرية.

تبدأ معرفة المواطن بالحياة العسكرية من خلال الـ45 يوما! ولمن لا يعرف فالمقصود الـ45 يوما الأولى في حياة المجند (التجنيد إجباري) أو الطالب المستجد في الكليات العسكرية، وهي فترة من أعجب وأغرب الفترات التي تمر بالمواطن، فمع بدايتها تُمنع الإجازات والزيارات ويعزل المجند أو الطالب تماما عن الحياة المدنية، وكأنما هي نجس أو رجس من عمل الشيطان عليه أن يتطهر منه قبل الدخول إلى الحياة العسكرية.

Ad

وتبدأ التدريبات ويفاجأ المجند والطالب المستجد بأمور لا يستطيع فهمها أو معرفة لماذا تتم، فما معنى طابور الثبات مثلاً؟ هكذا يسأل المجند نفسه ما معنى أن يقف ثابتا لا يتحرك لمدة لا تقل عن 45 دقيقة ولا يسمع سوى الجملة الخالدة من شاويش الطابور "لو حنش (ثعبان) إتلفّ على رقبتك متتحركش... لو أخوك واقف جنبك ووقع متلحقوش" (هذا الطابور ليس عقابيا لمن أخطأ أو أذنب ولكنه طابور تدريبي)، وتبلغ المعاناة ذروتها عندما تقف ذبابة على أنفه فيبدأ تمارين قبض الشفة العليا للداخل، ودفع السفلى للأمام والنفخ يميناً ويساراً لتطير الذبابة، لكنها تعود مرة أخرى، وهو لا يدري لماذا يفعل ذلك؟ ولماذا يقف ثابتا كالحجر لا يتحرك؟ وفي داخل "الميس" (صالة الطعام) حين يصرخ شاويش الميس "ثابت" فيتوقف الجميع عن الحركة، ومن بيده ملعقة يعود بها إلى صحنه، ومن في فمه طعام يبلعه دون أن يمضغه وأيضا لا يفهم لماذا؟ وإذا تفضل أحد فالإجابة النموذجية "علشان تنشفوا وتبقوا رجالة"، ولا يفهم المجند والطالب ما العلاقة بين الرجولة والوقوف ثابتا لا ينقذ زميله إذا وقع؟! ولا بين الرجولة وبلع الطعام دون مضغه تنفيذا لأمر الثبات؟!

بعد أن تقدم بي العمر جمعتني إحدى المناسبات بأحد كبار ضباط التدريب في القوات المسلحة فسألته عن فترة الـ45 يوماً وما يحدث فيها ولماذا؟ فأجاب ببساطة شديدة: كي يتعودوا على طاعة الأوامر، فقلت: ألا توجد طريقة أخرى لتعودهم على طاعة الأمر؟

فرد: مثل ماذا؟

قلت: الاقتناع... أن تقنعه بالفعل قبل أن تطلب منه تنفيذه.

وهنا ضحك بسخرية أشعرتني بالحرج: نحن نعد المجند للحرب وفي الحرب لا وقت للإقناع.

فأجبته: يا عزيزي فعلا في الحرب لا وقت للإقناع لأنك أصلا لست في حاجة إليه، فالمجند يذهب للحرب ليقاتل عدوه الذي اعتدى على أرضه واغتصبها، فهو في حال اقتناع حقيقي بما يفعل ولا حاجة لإقناع جديد... وأكملت أعتقد أنك لا تعوّده على الطاعة ليقاتل العدو ولكن ليضرب الصديق.  فشعر هو بالحرج وغضب وقال: ماذا تعني؟ أجبته أنت تعوده على الطاعة –مثلا- ليطلق النار على المتظاهرين وبينهم زميله وصديق عمره دون أن يسأل لماذا؟ ليلقي القبض على جاره وقريبه دون أن يعرف السبب، من أجل هذا تعوده على الطاعة؛ سكت الضابط وانصرفت أنا.

ما يتم الآن مع الشعب هو تماما ما يتم مع المجند والطالب المستجد، الهدف منه أن يتعود الشعب تماما على طاعة الأمر دون سؤال أو تفكير ولكن لماذا؟ لماذا مطلوب منه أن ينفذ دون أن يسأل أو يفهم؟ ويزداد السؤال جزءا ثانياً فإذا كان المجند يحتاج إلى 45 يوما للتعود على ذلك فكم سيحتاج الشعب؟ 45 أسبوعا أم 45 عاما؟

وللمقال بقية.