كلما كان الإنسان واسع الأفق مثقفاً وعلى علم كان اختلافه راقياً، لأنه يبني أفكاره ومعتقداته على علم ومعلومات وينتصر للعلم وللحقيقة، لا لشخصه، وكلما كان الانتصار للعلم والحق يكون الاختلاف مجدياً وغير جارح، ولكن إذا كان ذلك الاختلاف بقصد الانتصار للنفس والأفكار الخاصة وللشهرة فسيكون الاختلاف غير مجدٍ ويفتقد إلى الأخلاق، وبالتالي سيكون جدالاً بلا فائدة.

Ad

تمر مصر والمنطقة العربية كلها بمرحلة يتبادل فيها الجميع الاتهام والتطاول، وللأسف تعدى هذا الاتهام والتناحر من الجدل السياسي إلى التطرق إلى أمور دينية، يرى الكثير فيها تطاولاً غير مقبول على علماء الإسلام وكتبه الصحيحة.

وهنا يأتي سؤال: هل التعرض للقضايا الخلافية الدينية ممنوع؟ وهل تجديد الخطاب الديني ومراجعة بعض المصادر مرفوض؟ الإجابة بالطبع ستكون لا، فالخلاف في الأمور الفقهية ليس بجديد، ولا توجد مقدسات إلا كتاب الله وسنة نبيه، محمد صلى الله عليه وسلم، أما ما دون ذلك فقابل للبحث والنقد.

لكن هل أسلوب النقد المتبع على شاشات الإعلام هادف ويؤدي إلى النتائج المرجوة؟ بالطبع لا، حيث إن نتائجه عكسية، ويؤدي إلى النقيض، لأن النقد فاقد للأخلاق ومتسم بالتطاول والتشكيك، وصاحب ذلك قيام إحدى مديريات التعليم بحرق كتب دينية بفناء مدرسة، لا نعلم ما هي هذه الكتب وعلامَ تحتوي، ولكن الشكل الذي قدم للعامة أنها كتب دينية أحرقت في فناء مدرسة، شيء محزن ومخزٍ ويدعو إلى الغيرة والحمية، لأنه قدم بطريقة خاطئة. والكاتب الذي دعا إلى تظاهرة لخلع الحجاب، أي التحرر، أريد أن أوجه إليه سؤالاً: فيم ضرك الحجاب ومن يرتدينه؟ لم يعترض أحد على غير المحجبات فلماذا تحدي مشاعر الآخرين، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، لكم دينكم ولي دين، هذه أفكار ومبادئ الإسلام، لا إجبار على شيء، ولا على عقيدة، لأن العبادة لله لا للبشر، وإن لم يكن فيها إخلاص لله فليس له منها شيء، ولكن ما نراه رغبة حقيقية في خلق حالة من البلبلة وإثارة المشاعر وقد تكون دعوة للتطرف في ظروف نحن أحوج فيها إلى وحدة المواقف لمواجهة أخطار تهدد الإسلام والمسلمين.

لماذا لم يذهب أصحاب الفكر والدعوات للتجديد إلى الأزهر أو قاعات العلم وأهله لمناقشة أفكارهم وما يعترضون عليه؟ هذه الدعوات والهجمة على الإسلام وصحيح كتبه لن تزيد المسلمين إلا تمسكاً بهذه الكتب وحباً لمؤلفيها وما قدموه، لأنهم لم يجدوا إلا غلاً وحقداً على هؤلاء العلماء وبذاءة فكرية لا نقداً واختلافاً هادفاً لمواجهة الأفكار المتطرفة التي نريد التخلص منها.

ولذلك ما أحوجنا كشعوب عربية إلى التقارب ومد الجسور بيننا لننتصر على التحديات، فالإقصاء وادعاء امتلاك مفاتيح الأسرار والحقيقة سياسة متخلفة لا تنتج إلا تطرفاً وإرهاباً وأيضاً لسنا بحاجة إلى الخوف من الحوار والنقاش والمكاشفة، لأن سبب الخوف نقص الحجة والبرهان، إضافة للتعصب والتشدد الديني أو الفكري أو السياسي، والذي يصل أحياناً إلى درجة النعامة التي تغرس رأسها في التراب حتى لا ترى الحقيقة، وجسمها مكشوف، وكأن المختلف أصبح غير مرغوب فيه أو بات عدواً محذوراً.

لا يجب إقصاء أو تهميش وتحقير المختلف سياسياً أو دينياً، حيث إن الاختلاف موجود عبر التاريخ، وقد اختلف الناس ومازالوا وسيظلون مختلفين، فهو موجود في الأديان والعقائد والمذاهب والفكر والقوميات والرغبات والميول وغيرها، وذلك الاختلاف تقتضيه الطبيعة البشرية ومبدأ الحرية بعيداً عن التسلط والتفرد والهيمنة والإقصاء والدكتاتورية، حيث العقل والمنطق يقولان إنه لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة، لأنها نسبية خاصة في القضايا السياسية والاجتماعية والفكرية والدينية، وكذلك لا أحد يستطيع تبرئة نفسه وتخطئة الآخرين طوال الوقت، لكن أسلوبه وطريقته وتعامله في الوصول للحقيقة تفرز قيمة الاختلاف، والأيام والتاريخ كفيلان بكشف كل الحقائق.

إننا بأمس الحاجة إلى نشر وتعميق وممارسة ثقافة الاختلاف وتعدد وجهات النظر والمواقف والآراء بطريقة ديمقراطية وشفافة، لأنها تهيئ فرصة للثراء والابتكار والتقدم والتنوع، ولكن ليس بالأسلوب الوقح الذي ينتهجه البعض الآن تحت اسم التطوير وتجديد الخطاب الديني ومواجهة التطرف، وهم من انتهجوا التطرف في فكرهم وطرحهم بأسلوب إرهابي بذيء، وهم في حاجة إلى تجديد ذلك الأسلوب، ففاقد الشيء لا يعطيه... طبال يريد أن يطور الفكر الديني بإنشاء مدارس للرقص الشرقي... أي إسفاف واستخفاف هذا؟!