يظنّ بعض الناس خطأً أن الوصول إلى سدّة القيادة يعني بلوغ مرحلةٍ من الرّاحة والرفاهية والاستجمام، ويرى هؤلاء أنّ مسؤوليّة القائد لا تعدو أن تكون محصورةً في توزيع المهام على المرؤوسين وملاحقتهم، والحقيقة أنّ هذا أبعدُ ما يكون عن الصواب والواقع، فالقيادة إنّما هي ذروة المسؤوليّة، باعتبارها العقل المدبّر للأمور كلِّها، والقلب النابض لما حولها وكلُّ المهام والمسؤوليات تقزم أمامها، ولكي يستطيع القائد أن ينوء بهذا الحمل الثقيل من الأعباء المتباينة؛ لابدّ له أن يملك الكثير والكثير من الأوراق التكتيكيّة (أو عدة أدوات إذا صحت العبارة) الفاعلة والمؤثرة في أتباعه، وفي إنتاجيتهم، وبالطبع تختلف طبيعة هذه الأوراق من مجال إلى آخر، وكذلك تتأثر بنمط القيادة وطبيعتها، وغالباً ما تكون ذات أبعاد إداريّة أو اقتصاديّة أو سلوكيّة، وسنفصل في ما يلي القول في بعضها.

Ad

أولاها وأهمها على الإطلاق في نظري أن يحسن القائد اختيار بطانته، لأنّ هؤلاء سيشكلون فيما بعد الامتداد الذي ينجز ما ينجزه به، والدفّة التي يدير من خلالها سفينته نحو الموانئ المنشودة، ولذا فإنّه كلما كانت صلبةً مطواعةً؛ متماهية مع فلسفته القيادية، صادقةً معه وله، متنوعة الأدوار بانسجام تام، أعطت القائد ثقةً أكبر، وأنتجت له ثماراً أنضج وأشهى.

وعلى القائد هنا أن يتجنّب ـ بكلّ ما يستطيع ـ الخلط ما بين العلاقات الشخصيّة، وعلاقات العمل، فكثيراً ما يكون مقتل القائد ودماره جرّاء هذا الخلط الخطير الذي في لحظة الحقيقة يجعله عاجزاً عن اتخاذ القرار الصائب أو اتخاذه بالسرعة المناسبة، وسيجرّده من أيّة قدرةٍ على التأثير أو الفاعليّة أو المحاسبة، بل قد يوقعه هذا الخلط تحت طائلة المسؤولية.

ومن الأوراق المهمّة التي لابدّ للقائد الناجح أن يحسن توظيفها الأخذ بمبدأ التحفيز، وهناك العديد من النظريات حول التحفيز في المنظمات والمؤسسات، يمكن تبسيطها في أن النفس البشرية تتوق إلى التحفيز دائماً، وعندما تكون هذه الحوافز مدروسةً ومجديةً، وتوضع في نصابها الصحيح، بعيداً عن المحسوبيّات والأهواء، فإنّ لها مفعول السحر على الفرد أو الفريق كله، إذ تخلق بينهم روح المنافسة، وتبثّ فيهم النشاط والحيويّة، وتفجّر طاقاتهم الكامنة. على أنّه يجب أن تُراعى عند تطبيق مبدأ التحفيز أمورٌ مهمّة جداً، أولها: ألاّ يصبح الحافز غايةً، فيكون على حساب الكيف، ويسيء للعمل والإنتاج، وثانيها: ألاّ يُغفلَ عن مبدأ المحاسبة عند التقصير أو الإهمال، وثالثها: التنويع في ماهيّة المحفزات، وألاّ تقتصر على الماديّة والعينيّة منها (وهي مهمة)، فقد تكون ترقيةً إداريّةً وسلطات أوسع، أو قد تكون بالإشراك في اتخاذ القرار، أو في إعطاء المساحة الكافية للإنتاج والإبداع، أو في التدريب والتطوير، أو بتكريم معنوي عبر احتفالٍ أو عبر لوحة شرف، أو بشهادات تقديرٍ أو أوسمةٍ أو بإطلاق اسم على مرفقٍ مهمٍّ من المنشأة أو الشركة، أو برحلةٍ ترفيهيّةٍ، أو غيرها.

أمّا ثالثة الأوراق بيد القائد فتتجسد في قيادته للتغيير ورفض ما هو ثابت، فالتغيير سُنة الحياة، ومن ثبت تأخر أو هو في حكم الميت، والمنظمات التي لا تتبنى التغيير والتنوع المستمرين، إما استجابة لمتغيرات داخلية أو خارجية، أو استباقاً لما قد يطرأ، فإنها معرضة للتهميش أو الأفول أو الفناء، لذا فإن رصد الواقع واستشراف المستقبل ومراجعة الاستراتيجيات بشكل مستمر أمرٌ لا بد منه، ويتبعه عادةً تنويع سياسة العمل، وعدم الركون إلى سياسةٍ واحدةٍ ثابتةٍ من شأنها أن تؤدي بعد برهةٍ من الزمن إلى ركودٍ وروتينٍ مقيتين، يعتادهما الفريق مما يقضي على روح الإبداع والتميز لديه، ويضعف إلى حدٍّ بعيد إحساسهم بالمسؤوليّة والغيرة على عملهم، ويتبعه كذلك تنويع أو تغيير المعروض سواء كان منتجاً أم خدمة.

ويجدر، في هذا السياق، أن يعرف القائد أنّه لا يجوز له أن يكشف من أوراقه إلاّ ما يراه ضروريّاً للمرحلة، وأن يترك لفضول فريقه حيزاً للنشاط والبحث والتحرّي، فالفضول والتشويق في بعض جوانبهما دافعٌ للعمل، كذلك على القائد أن يحرص من خلال سلوكه ومواقفه على أن يزرع مساحةً من المهابة والاحترام المرويّة بمشاعر الودّ والإعجاب في صدور مرؤوسيه، كيما تنبت له ثقةً وعملاً والتزاماً.

إذن ما يمكن تأكيده بعد هذا كلّه أن القيادة هي عملية ديناميكية لاستنفار مجمل الطاقات، وحشدها، وتوظيفها وليست فرصةً للاسترخاء والراحة. ولا أراني أبالغ إذا ما ذهبتُ إلى القول بأنّ هذا المفهوم الخطأ والخطير للقيادة يقف خلف تعثُر الكثير والكثير من مشروعاتنا، وفشل منظماتنا، وخسارات شركاتنا، فما أحوجنا اليوم إلى نسفه وتغييره.