إحدى أدوات الإنسان في التكيف مع واقعه الخيال، نعم، عندما يعجز إنسان عن مواجهة تحديات تواجهه فإنه يلجأ إلى خلق واقع آخر في خياله، في هذا الواقع الخيالي ينتصر على تحدياته، ويحقق طموحاته، وينتشي بقوته الوهمية، ويحل مشكلته، أعتقد أن هذه الحالة من الهروب هي جزء من تكوين النفس البشرية بشكل أو بآخر، بصورة أدق، بدرجة أو بأخرى.

Ad

إذا ما زادت هذه الدرجة عن مستوى معين تتحول إلى حالة مرضية، وأكثر الأمثلة إيضاحاً لهذه الحالة تبدأ مع الإنسان في مرحلة الطفولة، مثلاً إذا ما تعرض الطفل للاعتداء عليه بالضرب من طفل آخر أكبر منه أو أقوى منه فإنه يعوّض ذلك بخيال يعيشه وهو يضرب مَن ضربه، بل يتخيل أنه وجّه إليه ضربات قوية وأسقطه أرضاً، يغمض الطفل عينيه ويعيش هذا الخيال ويتفاعل معه جسدياً بحركات يديه وقدميه فيشعر بالارتياح ويتخلص من إحساس القهر حتى لو كان ذلك في خياله.

 تتحوّل هذه الحالة إلى ظاهرة مرضية إذا ما صدق خياله وبدأ يصدر حكايته المتخيلة للآخرين على أنها حقيقة، وتزداد حدة الحالة عندما يصدق هو نفسه ويعيش حالة البطولة الوهمية، وينذر هذا بأن الرجل القادم من هذا الطفل هو رجل مريض نفسياً، يحل مشكلته بالعيش في الأوهام ليخلق لنفسه واقعاً مزيفاً بديلاً عن الواقع الحقيقي الذي يعانيه.

للأسف كثيرون ممن يحيطون بنا يعانون هذا المرض، وللأسف أيضاً فإن التغيرات الأخيرة التي اتسمت بأنها تغيرات حادة شهدها مجتمعنا سمحت لهؤلاء المرضى أن يطلقوا علينا أوهامهم باعتبارها حقائق، ويصدرون لنا حكمتهم التي لم تكن موجودة يوماً، لكن كل هذا بأثر رجعي، نكتشف اليوم كيف أن رجالاً ونساءً احتلوا مواقع النخبة وتشكيل الرأي العام مصابون بهذا المرض النفسي الخطير، الجديد هنا هو أنه مرض اختياري، بمعنى أن هؤلاء اكتشفوا أنهم كي يعيشوا في الوسط والمستوى ودائرة الضوء التي يريدونها فإن الطريق لذلك هو ادعاء البطولة والحكمة بأثر رجعي.

 فسنكتشف من كان واقفاً موقف المتسول لنظرة رضا من مسؤول سابق يخرج اليوم ليتحدث عن بطولاته وصولاته وجولاته في مجابهة هذا المسؤول، ويخرج آخر ليدعي أنه كم قدم من نصح ومشورة للمسؤولين السابقين الذين لم يسمعوا له ولحكمته، فدفعوا الثمن بخروجهم المرير، أيضاً أولئك الذين فيما يبدو أن نسبهم يعود في أصوله إلى "زرقاء اليمامة" فامتلكوا القدرة على رؤية القادم، فيخرج أحدهم ليتحدث اليوم عن أنه كيف رأى مستقبل مصر في ظل "الإخوان" منذ الجمعة التي خطب فيها القرضاوي في ميدان التحرير، وحذّر كزرقاء اليمامة من القادم لكن الأغبياء لم يسمعوا منه، هذه هي نماذج الهروب الطفولي إلى الخيال للانتصار على إحباط الواقع، لكنه كما ذكرت يتحول إلى مرض إذا ما سيطر على صاحبه، وهو جريمة إذا اختار شخص أن يعيش هذا المرض بإرادته ليدعي الحكمة والبطولة بأثر رجعي.

المشكلة التي نعانيها أن أمثال هؤلاء ملأوا الساحة، بل تمكن بعضهم من أن يفرض نفسه في دوائر متعددة من دوائر تشكيل الرأي العام والتأثير في صنع القرار، ويحاول بعضهم أن يجد لنفسه مكاناً جديداً تحت الضوء، إن سيطرة مثل هذه الشخصيات على أي مساحات تأثير في المجتمع أو الإدارة لن تصب إلا بالسالب ضد مصلحة هذا الوطن.

قد ينجح الزمن فترة طويلة في أن يضع أقنعة على وجوه الكثيرين، ومع طول الزمن يبدو الأمر كأنه حقيقة، وتبدو هذه الأقنعة وهلةً كأنها وجوه حقيقية، وينجح هؤلاء الحكماء "في غفلة من الزمن" والأبطال "من ورق" في إحداث ضجة ويحولون مقدمة الصورة، ويطرحون أنفسهم باعتبارهم المخلِصين والمخلِّصين -بكسر اللام مرة وتشديدها مرة أخرى- معتمدين في ذلك على ضعف ذاكرة الناس، الإنسان طبعه النسيان.

 ومن الطبيعي أن يصاب بالإحباط من يفهم هذه الحالة ويرى خطورتها على المجتمع والدولة، لكن يظل الرهان والأمل في القاعدة التي تقول "في النهاية لا يصح إلا الصحيح"، ونظل نعيش على أمل أن نرى هذا الصحيح، وحتى يأتي ويصح الصحيح لا ينبغي أن نتوقف عن كشف البطولات الوهمية والحكمة الغائبة.