كنتُ جالساً في قاعة الانتظار في مطار "هيثرو" أستعد لعودتي إلى الكويت، غارقاً في إحدى روايات الروائي الأميركي "ريتشارد فورد- Richard Ford" حين جاء ليجلس إلى جانبي رجل- ربما يمشي في بدايات الستين- يطفح بأناقته الرجولية وشيء من ودٍّ يرسم نظرته. كعادتي ألتفّ بوحدتي، لا أحبّ أن أقتحم على أحدٍ قشرة لحظة عالمه- رحت ألحظه صمتاً- "مساء الخير" بادرني بتلطف حسّه

Ad

"مساء النور" رددت بترحاب واضح.

 سألني عن الرواية والكاتب، فأجبته أنني أرى في "ريشارد فورد" أحد أهم كتّاب أميركا والعالم، وأنه كاتب يبتعد عن أضواء الشهرة، لكنه يخلّد اسمه فيما يكتب من روايات تظهر وجهاً مغايراً من وجوه المجتمع الأميركي.

 "أنا قادم من نيويوك وذاهب إلى الكويت"- قال لي كأنه يفتح باباً لحوار آخر- لذا توقفت عن حديثي، وسألته: "تعمل في الكويت؟"

"أنا أمثّل ثلاث شركات متخصصة في صناعة وتسويق الأجهزة الخاصة بالمعاقين".

أخبرني أنه سيمكث في الكويت يومين، وبعدها سيذهب تحت حماية الجيش الأميركي إلى العراق. وأوضح: "العراق سوق كبير جداً لأجهزة المعاقين".

شيء من حزن تسرّب إلى قلبي، بينما الرجل يبيّن مهمته: "الحروب هي المصدر الأساس لتسويق معداتنا".

أغلقت رواية ريتشارد فورد، فلقد احتلني ما يشبه وجعاً، وصوت الرجل يقول: "ليس العراق وحده، فسورية، ولبنان، وليبيا، وحتى مصر واليمن"، وربما لأنه أحسَّ بألمي قال لي وشيء من تعاطف في صوته: "نحاول جاهدين أن نساعد الأطفال، فالعنف لا يميّز بين صغير وكبير".

استأذنته لأنهض مبتعداً بحجة الذهاب إلى دورة المياه، فلقد اهتزت مياه روحي بدمع قلبي، وهجمت عليَّ آلاف الصور لعنف وتدمير وموت بشع يأكل الأخضر واليابس، لكن كلمة الأطفال وحدها راحت تركض في رأسي، ويلمع كنصل سكين متعطش للدم، صعد بي السؤال: "أي مستقبل ينتظر وطني العربي؟" منذ حرب الخليج الأولى والعراق غارق في بحر الدم، ومنذ الحرب الأهلية اللبنانية، ولبنان يسير إلى الأمام خطوة وإلى الوراء خطوتين، ومنذ اندلاع انتفاضات الشعوب العربي مع بداية عام 2011، وسماء الموت تمطر ليبيا وسورية واليمن بجنون القتل والموت.

كيف لمدن أدمنت دخان الحرائق أن تتنفس إلا الخراب؟ كيف لمدن تختلط فيها صافرات الإنذار مع أصوات سيارات الإسعاف أن تتخطى حطام الموت؟ وكيف لمدن تقتات على مياه ملوّثة وكهرباء تمر باليوم ساعة أو ساعتين، أن تنتج أجيالاً متعلمة تتقن رنة الحرف وروح المعنى، وتؤمن بالخير والسلام، وتعيش نبض اللحظة الإنسانية المعاصرة؟

 أكثر من قطر عربي ما عاد يعرف للتعليم النظامي المستمر حضوراً مقنعاً، وصار أطفال الشوارع يمثلون الظاهرة الأوضح في عواصمه. أطفال يقتاتون على فتات السرقات، ويتشاركون وكلاب الشوارع طعام بطونهم، كيف لأوطان لا يعرف أطفالها أبواب المدارس أن يعيشوا عالم ثورة المعلومات وشبكات التواصل الاجتماعي؟ كيف لأمة ينتشر فيها المعاقون بسبب الحروب أن تجتاز جراح ثاراتها؟

نظرة متأملة في بيانات الهيئات الدولية عن منطقتنا العربية، تقدم زاداً مراً وصوراً مخيفة عن أعداد المعاقين وأطفال الشوارع، والسائرين إلى ساحات العنف الأعمى الذي سيأخذهم إلى نعيم الجنان المؤملة!

 أجيال من المعاقين تنتظر هذه الأمة، لا ذنب لهؤلاء سوى أنهم وُلِدوا في المكان الخطأ، وشاء لهم حظهم العاثر الوجود في المكان الخطأ، ليعيشوا معاقين طوال حياتهم. لكن إعاقتهم البدنية لا تعني أبداً أنهم أقل إحساساً أو إقبالاً على الحياة من غيرهم. فماذا أعدت المجتمعات العربية لمواجهة غد المعاقين؟ وكيف ترانا سنفسح للآخر مكاناً بيننا، وهو لا يعرف فك الخطِّ إلا بالسكين والحزام الناسف؟