فجأة وفي منتصف الطريق، وبينما تقود سيارتك تفاجأ بمطب صناعي لا تملك الوقت لتهدئ السيارة فتقفز في الهواء، وقبل أن تفيق من صدمة المطب الأول يفاجئك المطب الثاني، هكذا معظم طرقنا في المدن وبين المدن في مصر، كل مَن يريد أن يبني مطباً ظناً منه أنه يحميه، يبادر هو ببنائه دون الرجوع إلى أحد، ودون أن يوقفه أحد أو تحاسبه جهة رسمية، هذه الصورة التي قد يراها البعض بسيطة اعتبرتها منذ سنوات طويلة دلالة على تآكل هيبة الدولة، عندما يقرر الأفراد أن يحلوا هم محل الدولة ولا يوقفهم أحد، هنا بداية سقوط الهيبة والسلطة والقدرة على الفعل من الطرف المفترض فيه أنه الأقوى والقادر على القرار والفعل وهو الدولة، كانت هذه مقدمات رصدتها وغيرها باعتبارها علامات خطيرة على ما قد نواجهه يوماً من انهيار تام للهيبة.

Ad

عانينا جميعاً حالة الانهيار شبه التام لحضور الدولة وسيطرتها وسقوط هيبتها طوال الأعوام الثلاثة الأخيرة - أو أكثر-الماضية، منذ الثامن والعشرين من يناير البداية الحقيقية لهذا الانهيار الذي كانت مقدماته سابقة بسنوات، وكان سقوط النظام قبل السابق إعلاناً عن الانهيار، شهدت مصر وشهد المصريون أياماً وليالي طويلة أظن أن وصفها بالسواد غير كافٍ، فقدت مصر ما عُرِف عنها بأنها بلد الأمن والأمان، القاهرة التي كانت لا تنام أصبح أهلها لا ينامون خوفاً وهم في بيوتهم أو على أبنائهم وهم خارج البيوت، حالة الشارع كانت حالة من الفوضى العارمة، لا أتجاوز إن وجهت أصابع الاتهام إلى الطرف الثالث الذي صنع هذه الحالة ودفع لها واستفاد منها، كانت هناك أفعال يدفع لها دفعاً من أجل التأكيد على إسقاط هيبة الدولة والترويج لحالة البلطجة وليّ الأذرع، نجح الطرف الثالث في السيطرة على الأجواء، حتى عندما وصلوا إلى سدة الحكم ظلوا يمارسون سلوك الفوضى من وقت لآخر، وذلك في إطار معركتهم مع مؤسسات الدولة المصرية التي رفضت الانصياع لهم أو حاولت مقاومة محاولاتهم للاستحواذ والسيطرة، لذلك شهدنا سلوكاً متفرداً في البلطجة في التعبير عن المواقف، فلا بأس من حصار المحكمة الدستورية، ولا مانع من اقتحام قاعات المحاكم والاعتداء على القضاة وتهديد المعارضين ومحاصرة مدينة الإعلام وتشجيع الاعتداء على رجال الشرطة، كل هذا خلق جواً من انتشار البلطجة والفوضى والجريمة، فإذا كان النظام الحاكم قرر استخدام الأساليب الإجرامية لتحقيق ما يعتقده أهدافه فإن هذه الأجواء مثالية لانتشار الجريمة والفوضى، فليس هناك من سيحاسب، وهكذا تحولت مصر إلى مدن يسكنها الخوف والقلق والتوتر.

الأمر المثير للدهشة والإعجاب أن مصر منذ انتفاضة شعبها في 30 يونيو والتخلص من نظام الجماعة فإن الملحوظة الرئيسية هي انخفاض معدلات الجريمة بشكل كبير، قد لا تكون هناك أرقام دقيقة حالياً لكن الملحوظة العامة أن هناك تراجعاً واضحاً في شكل الجريمة ونوعها، والدليل الآخر على ذلك هو تلك الحالة من الشعور بالأمان الذي بدأنا جميعاً نشعر به في حركتنا وحركة أبنائنا، فلم يعد ذلك الخوف وحالة الرعب أثناء الحركة أو حتى مع الوجود في البيوت، الآن أظن أن قدراً كبيراً من الإحساس بالأمان عاد على الرغم من أنه لا يمكن القول بأن أجهزة الأمن استعادت قوتها الكاملة بعد، لكن الإحساس العام الذي ملأ المصريين بأن بلدهم عاد إليهم قد توازن مع شعور بأن الأمور باتت أكثر أمناً مع اختفاء الجماعة من موقع السلطة.

لكن، مرة أخرى لكن، لا يبدو أن الجماعة وتوابعها يريدون للدولة أن تعود ويصرون على تحدي هيبتها وقوتها بأي شكل، بل بكل الأشكال، وهذا الأمر يتسبب في خسارتهم للبقية الباقية من تعاطف معهم في الشارع، وهذا ليس قضيتنا اليوم، فإنهم بهذا السلوك إنما يحصنون مصر ضد تأثيرهم لعقود، لكن ما يهم هنا الآن هو تلك الفوضى التي ينشرونها بين الناس، تلك الحالة من تحدي هيبة الدولة والقانون وقبلها انتفاضة الشعب الرافضة لوجودهم على مقاعد السلطة والقيادة، عندما أطالب اليوم بتدخل حاسم لفرض القانون وإعادة النظام فأنا أظن أنني أعبر عن رأي قطاع كبير من المصريين، لن أبالغ إذا قلت إنه القطاع الأعظم، على الجماعة وقيادتها أن تعلم أن الأمر قد انتهى وأن عودتها إلى السلطة لم تعد ممكنة، حالة البلطجة وقطع الطرق وترهيب المواطنين يجب أن تتوقف فوراً وبأي ثمن، لقد بدأت مصر مشوارها لوضع أسس الدولة المدنية الحديثة، وخطوة مهمة الآن للوصول إلى ذلك الهدف هي اتخاذ الإجراءات القانونية التي تضمن للمصريين العيش بأمان، ما نشهده الآن على الأرض يتجاوز حدود المقبول، يتحدى إرادة الشعب ومفهوم القانون، الأهم أنه شكل واضح من الإفساد في الأرض وتعريض مصالح الوطن والمواطن للخطر، وإذا لم تستطع الدولة وأجهزتها ومؤسساتها النجاح في ترسيخ استعادة الهيبة فإن هذا طريق لن يقودنا إلا إلى طريق لا نتمناه من الفوضى، هذا اختبار أول يتطلب موقفاً قوياً واضحاً باستخدام كل الأساليب القانونية لحماية الوطن والمواطن.

لن أستطيع أن ألوم سائق ميكروباص يقف وسط الطريق، ولا أملك أن أطلب من بائع متجول أن يترك نهر الطريق ولا أستطيع أن أحاسب متجاوزاً للقانون إذا لم تقم الدولة بدورها الرئيسي لاستعادة الهيبة، وهذا مطلب الناس، بدأت الدولة في اتخاذ خطوات تحتاج إلى تأكيدها والمزيد منها.