كل كتاب من كتب كازو إيشيغورو له طابع مختلف من حيث القصة والخلفية: بدءاً من الطبقات العليا في المجتمع الإنكليزي في كتاب {بقايا اليوم} (The Remains of the Day)، مروراً بالصين قبل حقبة الحرب العالمية الثانية في كتاب {عندما كنا يتامى} (When We Were Orphans)، وصولاً إلى الواقع المرير في كتاب {لا تدعني أذهب أبداً} (Never Let Me Go). لكنها تعكس كلها المخاوف المتجددة التي يحملها هذا الكاتب المحبوب الذي يحقق أعلى المبيعات بشأن طبيعة الذكريات والحقائق الخفية.

للوهلة الأولى، تبدو أحدث رواية له، {العملاق المدفون} (The Buried Giant)، أعظم قصة يطرحها حتى الآن. تدور أحداثها في إنكلترا بعد عهد الملك آرثر، وهي تتطور في موقع معزول تمزقه الحرب ويقيم فيه بريطانيون مسيحيون وسكسونيون وثنيون، بالإضافة إلى الغيلان والفرسان وأنثى التنين التي تبث الضباب من فمها واسمها {كيريغ}، فيغلّف نَفَسها الأرض بضباب النسيان. لكن يجب ألا ينخدع أحد بهذه الرحلات الخيالية إلى أرض تولكين: يشكّل العمل في الأساس تحقيقاً حكيماً ومهماً وأدبياً حول جروح الحرب وفقدان الذاكرة الوطنية. ينطلق بطلا القصة المسنّان، {أكسل} و{بياتريس}، في رحلة أسطورية للاجتماع مجدداً مع ابنهما المفقود منذ فترة طويلة، فيقابلان في طريقهما محارباً يستطيع ذبح التنين ويتحرك بدافع الانتقام، وطالبه اليتيم، والسير غاواين المصاب بالخرف. تحدث أندرسون تيبر مع إيشيغورو عبر الهاتف في لندن بشأن معضلات الذاكرة المشتركة ومشقات الحب الطويلة واحتمال خوض مجالات فنية جديدة.

Ad

هنا مقابلة معه أجراها موضع {غود ريدرز}.

قلتَ إنك اخترت هذه الحقبة القديمة لأنها تعكس مساحة تاريخية فارغة حيث تستطيع معالجة مسائل عالمية عن الحرب والذاكرة الجماعية. هل تشعر بأن النقاد بالغوا في التركيز على العناصر الدنيوية الأخرى بدل الأفكار الكامنة؟

بشكل عام، أشعر بأن الناس يفهمون جوهر الموضوع الذي أردتُ التعامل معه. لكنّي لاحظتُ أمراً لم أتوقعه كثيراً: أشعر أنني دخلتُ في جدل واسع ومستمر بشأن دور الاستعارات الخيالية في ما يمكن أن نسميه {الأدب الجدّي}. يذكّرني هذا الأمر، بدرجة معينة، بما حدث مع الخيال العلمي قبل بضعة عقود. لكن منذ ذلك الحين، أصبح الخيال العلمي أكثر شيوعاً ولا أحد يشكك بعد الآن بخلفية القصص التي تعكس الواقع المرير. لكني أشعر بوجود إحباط عام بين بعض الكتّاب الذين يشعرون بأنهم لا يستطعيون استعمال عناصر خيالية مثل التنين والكائنات المشابهة، وتشعر مجموعة من الكتّاب والقراء بالتهميش.

من خلال نشر هذه الرواية، حصل كثيرون على فرصة التعبير عن أفكارهم بشأن العلامات التي يُفترض أن تطبع هذه الخلفية وتلك التي لا تعبّر عنها. قد يقول البعض مثلاً إنّ كائنات التنين وأسطورة الملك آرثر أصبحت ملوثة بالأفكار المبتذلة وبالجوانب التي عُرفت بها فرقة «مونتي بايثون» الكوميدية لدرجة تمنع استعمالها بعد الآن. وقد يعتبر البعض الآخر، من أمثال نيل غيمان الذي راجع كتاب «العملاق المدفون» قبل طرحه في قسم تقييم الكتب في مجلة «نيويورك تايمز»، أن عدم استعمال تلك الأفكار هو الذي يعيق نسج المشاهد الخيالية، ما ينتج شكلاً من النزعة المحافظة غير الجذابة أو الأحكام المسبقة. أظن أننا بلغنا لحظة مثيرة للاهتمام من هذا النقاش وأعتقد أنها قد تطبع جيلاً كاملاً من ناحية معينة. يبدو الجيل الأصغر سناً أكثر انفتاحاً بكثير على هذا النوع من المسائل.

يعكس كتابك حتماً جزءاً من التوتر الإثني والديني السائد حول العالم اليوم. لكنه مستوحى فعلياً من أحداث جرت في بداية التسعينيات في البلقان ورواندا، أليس كذلك؟

نعم، أعترف بأن هذه المواضيع لطالما أثارت اهتمامي مع أنها لم تعكس يوماً المسائل التي أركز عليها في العادة. نشأتُ في ظل الحرب الباردة، ومثل معظم المقيمين في أوروبا، ظننتُ من وقت إلى آخر أن الهجوم النووي بات محتملاً. حين انتهت الحرب الباردة في عام 1989، أتذكر ذلك الشعور العارم بالراحة والتفاؤل. أظن أنه كان شعوراً مبرراً بدرجة معينة. لكن خلال سنتين أو ثلاث سنوات فقط، شهدنا على تفكك يوغوسلافيا. وحين انهارت أجواء السلام والوحدة التي فرضها النظام الشيوعي في عهد تيتو، أفترض أن تلك الذكريات المدفونة والعداوات السابقة كلها عادت إلى الواجهة وانفجرت من جديد. قبل أن ندرك ما يحصل، عدنا نشاهد معسكرات الاعتقال في أوروبا وبدت مجزرة سربرنيتشا من مخلفات الحرب العالمية الثانية.

 لم تكن أحداث رواندا شبيهة بالقدر نفسه لكنها كانت من التطورات الصادمة جداً في تلك الفترة. في الحالتين معاً، أظن أن السؤال الذي طرحه كثيرون هو التالي: كيف يمكن أن يبدأ هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يعيشون جنباً إلى جنب بحرق وذبح بعضهم البعض فجأةً؟ من الواضح أن الانقسام كان قائماً طوال الوقت، لكنّ الواقع المرعب كان يتعلق فعلياً بطريقة استعمال الذاكرة القبلية لإقناع الناس بحاجتهم الشخصية إلى الانتقام من جيرانهم. أفترض أن هذا الأمر هو الذي دفعني إلى التفكير بالذاكرة الاجتماعية وارتباطها بأنواع الكتب التي كنت أكتبها حتى تلك الفترة عن الأفراد الذين يكافحون للتصالح مع ماضيهم.

على مستوى آخر، يعرض الكتاب قصة حب بارزة مع أنها لا تبدو تقليدية جداً.

نعم، تتمحور قصة {العملاق المدفون} حول معنى الحب بنظري: إنها رحلة كبرى يخوضها الناس على مرّ حياتهم معاً. تقابل {أكسل} و}بياتريس} ووقعا في الحب وبقيا معاً لفترة طويلة جداً. تتعلق القصة فعلياً بالمشقات التي تمتد على سنوات طويلة ونضطر خلالها إلى النضال لأجل إبقاء الحب مشتعلاً. وبما أن هذه الرواية تتمحور حول التذكّر والنسيان، لا بد من التساؤل: ما هو دور الذكريات المشتركة في زواج مماثل؟ ماذا يحصل إذا بدأتَ تتذكر الأحداث بطريقة مختلفة؟ وكيف تتعامل مع الذكريات القاتمة والمزعجة؟ كما يحصل مع الأوطان عموماً، ثمة جوانب في العلاقة يفضّل الناس تركها مدفونة في الماضي. لكن سرعان ما يخطر على بالنا سؤال جوهري، لا سيما مع التقدم في السن: إذا قررنا نبش تلك الذكريات، هل ستدمر الحب؟ لكن إذا لم نسترجع تلك الذكريات، فهل يكون الحب حقيقياً؟ هذه هي معضلة {أكسل} و{بياتريس} بحسب رأيي. هما يريدان استعادة ذكرياتهما ويثقان بأن حبهما سيكون قوياً بما يكفي للصمود في وجه كل ما يمكن اكتشافه. لكن مع تلاحق الأحداث، ستساورهما الشكوك.

اهتماماتك متنوعة جداً، لذا يصعب علينا أن نتوقع موضوع كتابك المقبل. كيف تقرر الكتابة عن موضوع معين؟

سأستعمل على الأرجح كلمات مثل {خلفية} أو {نوع أدبي} للإجابة عن سؤالك. على مستوى أعمق، يبدو موضوعي أشبه بذاكرة ناشطة أو تحليل للمعضلة القائمة بين الذاكرة والنسيان. في مرحلة سابقة من مسيرتي المهنية، كان يمكن أن تتمحور القصص حول أصحاب النوايا الحسنة الذين هدروا مواهبهم وجهودهم على مر حياتهم. هذه الجوانب كلها لا تزال موجودة في كتاب {العملاق المدفون}. أظن أن {أكسل} هو شخصية نموذجية بالنسبة إلي: ظنَّ أنه يستطيع تغيير العالم نحو الأفضل لكنه بدأ يفكر في مرحلة معينة بأنه أساء التصرف وعليه إخفاء ما فعله. عند التعمق بالقصة، تبدو الروابط مستمرة بين مختلف المواضيع. يمكن أن أقول إنه موضوعي الأساسي من الناحية الإنشائية والعاطفية. لا يتمحور موضوعي فعلياً حول المشهد الطبيعي السائد في إنكلترا في عام 500 مثلاً. بالنسبة إلي، يدخل اختيار الحقبة في الخانة نفسها مثل طريقة سرد القصة وتحديد هوية الراوي ووجهة الآراء المطروحة وما إلى ذلك.

 من ناحيتي، يكون اختيار الحقبة، وحتى النوع الأدبي، مع أنني لا أقصد التفكير بالنوع الأدبي، جزءاً من محاولات إحياء القصة.

ما رأيك بالنسخ السينمائية من كتابَي {بقايا اليوم} و«لا تدعني أذهب أبداً}؟

أعجبتُ بالفيلمين معاً. من المدهش أن تصبح القصة التي كنت أحلم بها بيد أشخاص موهوبين آخرين يحاولون تحويلها إلى عمل خاص بهم. أحب فكرة أن ينجح العمل الذي طرحتُه بالترسخ والتطور في الثقافة. إنه إطراء كبير لي أن أسهم ولو بنسبة صغيرة بما يدور في مخيلة الرأي العام. في النهاية هذا هو الهدف من ابتكار القصص، أليس كذلك؟ ما أطلبه من الأفلام السينمائية المقتبسة هو أن تعبّر بصدق عن رؤية المخرجين. أريد أن تتمتع الأفلام بقناعتها الفنية الخاصة. بالنسبة إلي، هذا الجانب هو أهم من الأمانة لروايتي.

لنتكلم عن مسار الكتابة الذي تتبعه. هل من جانب مميز في منهجيتك أو طريقتك؟

قد لا أكون مختلفاً جداً عن الكتّاب الآخرين، لكني أفضّل أن أكتب على مراحل بدل صياغة مسودة كاملة. ثمة استثناء واحد: كتاب {لا تدعني أذهب أبداً}. في تلك الرواية، قلقتُ لسببٍ ما من التوقف عند أي نقطة من القصة، فكتبتُها حتى النهاية دفعةً واحدة. لكن مع الكتب الأخرى، كنت أكتب 30 إلى 40 صفحة بحذر شديد وأراجع المسودات أربع أو خمس مرات إلى أن أنقّحها نسبياً وأقتنع بها ثم أنتقل إلى القسم التالي. تشتق هذه الطريقة من رغبتي في إنشاء أسس صلبة قبل صياغة القسم اللاحق. لا أريد أن أتخذ أي قرارات فنية عشوائية من شأنها أن تنعكس سلباً على بقية أجزاء الكتاب.

القراءة

أي كتب أو كتّاب كان لهم الأثر الأكبر عليك حين بدأت تكتب؟

تأثرتُ كثيراً بروايتَي تشارلوت برونتي، {جين إير} (Jane Eyre) و}فيليت} (Villette)، وتحديداً في ما يخص استعمال صيغة المتكلم: إنه استعمال خجول ويبدو وكأنّ الراوية تنقل لنا عواطف عميقة قبل أن ندرك فجأةً أنها أخفت بعض العوامل الأساسية. كان دوستويفسكي كاتباً أحبه في مراهقتي، مع أن أعماله لم تعد تبهرني اليوم. ومثل الكثيرين من أبناء جيلي، كان كتاب {على الطريق} (On the Road) للكاتب جاك كيرواك صلة وصل مهمة بين موسيقى الروك والكتب. بما أنني نشأتُ هنا في بريطانيا، كنت أحلم بالذهاب إلى الولايات المتحدة والتجول في أنحاء البلد لأنني كنت قد أصغيت إلى جميع أغاني الروك الأميركية. وأفترض أن كتاب {على الطريق} للكاتب كيرواك كان الوحيد الذي يحمل هذه الروحية. كان الوضع كذلك في مرحلة سابقة، قبل أن أبدأ الكتابة، لكن جعلتني تلك التجربة أدرك أن الكتب يمكن أن تكون ممتعة جداً.

ماذا تقرأ اليوم؟

أقرأ كتاب {جوني ميتشل: بكلماتها الخاصة} ( Joni Mitchell: In Her Own Words). هو عبارة عن ثلاث محادثات سرية وطويلة مع صديقتها مالكا ماروم، وهي مغنية كندية أخرى من جيلها. في بداية مسيرة جوني ميتشل المهنية، هي تصبح مغنية ناجحة تجارياً ثم تشعر برغبة مُلحّة في الانتقال إلى مجال أكثر تطوراً. حين تصبح الموسيقى التي تقدمها أقل نجاحاً، تبدأ بفقدان معظم جمهورها. من المثير للاهتمام بنظري أن تتحدث عن حاجتها إلى استكشاف مجالات جديدة تزامناً مع اضطرارها للتعامل مع خسارة الجمهور والانتقادات المتلاحقة.

هل تعي شخصياً حقيقة هذا الأمر بصفتك كاتباً؟

نعم، نعم (يضحك)! لهذا السبب أجد الكتاب مثيراً للاهتمام! يبدو لي دوماً أن جذب هذا العدد من القراء هو مجرد حادث غريب. أدى الحظ دوره طبعاً: لا يسهل أن يعطي ما نكتبه في زمان ومكان معيّنين الصدى المطلوب. كنت محظوظاً جداً لأنني أصدرتُ كتباً جذبت أكثر مما يمكن توقعه في سوق الأدب. ساعدتني الأفلام أيضاً. لكني أشعر بأن هذا الفكرة لا تفارق تفكيري: إلى أي حد يجب أن أنتبه إلى وجود هذا الكم الهائل من القرّاء لكتبي؟ هل أستوحي منهم على المستويات الديمغرافية والجغرافية والثقافية؟ أم أنني أطرح الأفكار وأتمنى أن يتقبلوها؟