في سنوات الطفرة المالية كان من الصعب بل من المستحيل أحياناً أن يبقي الواحد منا على ذهنه خالياً من التلوث والضجيج الاستثماري، فالأسهم في ارتفاعٍ مستمر وكذلك الأراضي، والشركات والبنوك والمؤسسات المالية تعلن أرباحاً متصاعدة، وأخبار الاستحواذات تملأ الصحف وتصك الأسماع، وأخبار نجوم الاقتصاد وفرسان الاستثمار (كما أسمتهم الصحف حينها) على الصفحات الأولى متفوقة على النجوم البرلمانية المعتادة ونجوم الفن والرياضة، وأذكر في هذا الصدد أنني كنت في أحد الدواوين ودخل أحد هؤلاء الفرسان فكنت أرى نظرات الإعجاب، وأسمع كلمات المديح لهذا الناجح الذي بزّ أقرانه في عالم الأعمال، بينما يدخل غيره من المفكرين والمثقفين بل الوزراء فلا تسمع شيئاً إلا الصدى المتردد في الديوان.

Ad

وحديث الدواوين آنذاك كان مليئاً بقصص من قد ربح كذا من شراء سهم كذا وبيعه في مدة قصيرة لا تتجاوز الشهر أو الشهرين، والآخر الذي اشترى قطعة أرض في دولة خليجية ثم باعها بعد سنة أو أكثر وربح النصف! وهكذا كلها قصص لذيذة وشهية تشابه لذة الوجبات السريعة للأطفال، بها يتحقق الحلم بالثراء السريع، ويقابل هذا ويضادّه في الاتجاه المعاكس تماماً ما كان ينادي به العقلاء من مديري الاستثمار ومديري المحافظ والصناديق، ويوجهون النصيحة تلو الأخرى إلى صغار المستثمرين بالتروي وأخذ الحيطة والاستثمار الذكي في شركات مضمونة، والابتعاد عن المضاربات، وأن الأفضل والأسلم والآمن لمن لا يفهم في هذه الأمور أن يسلم أمره إلى "الخبراء" في صناديقهم ومحافظهم فيهنأ باستثمار مربح وبلا جهد يذكر.

ولطبيعتي المتحفظة، ولأنني من "صغار كبار صغار المستثمرين" ولا فخر، ولضيق وقتي ولخساراتي المتتالية في سوق الأسهم (وهذا هو السبب الحقيقي)، فقد استقر رأيي أن أتبع هؤلاء الفرسان الذين ينصحوننا بالاستثمار معهم، ومن باب "عط الخباز خبزك" توكلت على الله واستثمرت في بعض هذه الصناديق فتصندقت!

والحق يقال أن بداياتي كانت رائعة جداً فقد توالت علي التوزيعات والأرباح من جميع الصناديق بلا استثناء، وإن كانت هذه النتائج أقل من السوق لكنني كنت أعتبرها ضريبة بسيطة أدفعها لهؤلاء الخبراء مقابل راحة البال والربح المضمون، واقتنعت يومها فعلاً أن الأمر بحاجة إلى مهارة وعلم ودراية وخبرة أفتقرها بكل جدارة.

وفجأة حدثت الأزمة وتهاوى كل شيء، ووجدت أن خساراتي بحجم الخسائر في السوق، وفر الفرسان وسقط بعضهم أسيراً والآخر مضرّجاً بدمائه، وشهدت قيمة استثماراتي تهوي إلى مستوى أقل من المستوى الذي ابتدأت به بكثير ولم أستطع البيع.

ويبقى السؤال ماذا حدث؟

لخصت جريدة "القبس" في أحد تحليلاتها ما حدث بأنه بين "الأغسطسين" (2008 و2010) تراجعت الصناديق الاستثمارية المدارة أموالها وأصولها لدى شركات الاستثمار من 3349 إلى 1986 مليون دينار، أي بما نسبته %42 وأن استثمارات الصناديق تأثرت كغيرها من الجهات المستثمرة في الأصول المالية بتداعيات الأزمة التي أتت– أول ما أتت– على تفجير بعض الفقاعات التي كانت منفوخة اصطناعيا عشية الأزمة.

وباستثناء الصناديق المدارة جيداً والتي عددها لا يتجاوز أصابع اليدين، هناك كم كبير من الصناديق التي انكشفت مع الأزمة لتظهر فيها عورات ما كان أحد يعيرها اهتماماً أيام الرواج والربح الوفير (معظمه كان ورقيا).

ومن العورات التي انكشفت يمكن ذكر الآتي: تفرخت صناديق بالعشرات حتى لوحظ تطفل شركات في هذا المجال بإطلاق اكتتابات صناديق لا طعم لها ولا لون ولا رائحة، كانت مجرد إفادة سريعة من وفرة سيولة شجعت كل من هب ودب ليغرف منها، ومع كثرة عدد الصناديق "نحو مئة" كان لا بد من ظهور شح في المديرين المحترفين، ولوحظ قيام شركات بالاستعانة بكفاءات غير مجربة كفاية، وحصلت ترقيات سريعة لمجرد الحاجة إلى مديرٍ شح توافره، ومع قلة الرقابة حصلت تجاوزات وخلط مصالح بين ما هو للغير وما هو للشركة نفسها أو للمجموعة التي تنتمي إليها، وانكشفت تجاوزات تتعلق بالتمويل، وتبين خلال الأزمة أن مديري صناديق تصرفوا كمضاربين من الدرجة العاشرة وكانوا مع القطيع في الصعود، فإذا بهم مع القطيع نفسه في النزول، وواجهت الصناديق سيلاً من طلبات الاسترداد من عملائها، وكانت التلبية ممكنة في بدايات الأزمة ولكن سرعان ما كبرت كرة الثلج حتى حالت دون تمكن الشركات المديرة من التلبية.

إذاً فلا احترافية ولا هم يحزنون!!

بعد كل هذا الكم من الحقائق والمصائب، رجعت إلى نفسي وواقع الحال يقول إنني لم أتصندق وحسب بل إنني "تبستقت" ولم يكبّر علي أحد!