من الوارد أن تكون الحرب التي تشنها إسرائيل ضد غزة قد توقفت عند نشر تلك السطور، وفي حال استمرت؛ فإن مصيرها إلى التوقف خلال أيام أخرى قليلة، عندما يشعر الطرفان، أو أحدهما، أن تكلفة استمرار القتال أكبر من العوائد المتوقعة منه.

Ad

عندما سيصل الطرفان، أحدهما أو كلاهما، إلى هذه النتيجة، فلن يجدا غير المبادرة المصرية أساساً لعقد هدنة، وعلى أقل تقدير، فإن دور مصر سيكون محورياً وجوهرياً في أي اتفاق آخر يصنع التهدئة المرجوة.

لقد تلقت المبادرة المصرية تأييداً ومساندة من الولايات المتحدة، وأوروبا، والمنظمات الدولية الفاعلة، وعدد كبير من الدول العربية والإسلامية المؤثرة، إضافة إلى السلطة الفلسطينية.

وباسثناء «حماس» وتركيا وقطر، وتنظيم «الإخوان» بطبيعة الحال، سيكون من الصعب جداً إيجاد أطراف معتبرة أخرى تدحض تلك المبادرة أو تطعن فيها.

تنص المبادرة المصرية على عدد من النقاط الرئيسة على النحو التالي:

- توقف إسرائيل جميع الأعمال العدائية على قطاع غزة براً وبحراً وجواً، مع التأكيد على عدم تنفيذ أي عمليات اجتياح بري لقطاع غزة أو استهداف المدنيين.

- توقف كل الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة جميع الأعمال العدائية من القطاع تجاه إسرائيل براً وبحرا وجوا وتحت الأرض، مع التأكيد على إيقاف إطلاق الصواريخ بمختلف أنواعها والهجمات على الحدود أو استهداف المدنيين.

- فتح المعابر وتسهيل حركة عبور الأشخاص والبضائع عبر المعابر الحدودية في ضوء استقرار الأوضاع الأمنية على الأرض.

- أما باقي القضايا بما في ذلك موضوع الأمن، فيتم بحثها مع الطرفين.

- يلتزم الطرفان بعدم القيام بأي أعمال من شأنها التأثير بالسلب على تنفيذ التفاهمات، وتحصل مصر على ضمانات من الطرفين بالالتزام بما يتم الاتفاق عليه، ومتابعة تنفيذها ومراجعة أي من الطرفين في حال القيام بأي أعمال تعرقل استقرارها.

- يتم استقبال وفود رفيعة المستوى من الحكومة الإسرائيلية والفصائل الفلسطينية في القاهرة خلال 48 ساعة منذ بدء تنفيذ المبادرة لاستكمال مباحثات تثبيت وقف إطلاق النار واستكمال إجراءات بناء الثقة بين الطرفين، على أن تتم المباحثات مع الطرفين كل على حدة (طبقا لتفاهمات تثبيت التهدئة بالقاهرة عام 2012).

إذا تم تحليل تلك المبادرة من أي جهة منصفة، فسيتبين على الفور أنها تقدم حلاً مرحلياً عادلاً، يستهدف في الأساس إيقاف آلة العدوان الإسرائيلية، التي بلغ عدد ضحاياها حتى كتابة هذه السطور نحو 700 قتيل، وآلاف الجرحى، أغلبهم من المدنيين، وعدد كبير منهم من الأطفال.

لكن «حماس» أعلنت رفضها لتلك المبادرة، بل إن خالد مشعل قال إن الحركة لن توافق عليها في المستقبل، في وقت وجه فيه انتقاداً مبطناً للقاهرة، ساعياً إلى تدخل من جانب قطر وتركيا، وهو الأمر الذي لم يتبلور في سياسة متكاملة حتى هذه اللحظة.

يريد مشعل تحقيق جملة من «المكاسب» التي تبرر التضحيات التي قدمتها غزة في ذلك العدوان، وتقوية موقف «حماس» الآخذ في التراجع والضعف، وتغيير عناصر معادلة «الوحدة الوطنية» مع السلطة الفلسطينية، كما يريد أيضاً مساعدة تنظيم «الإخوان» وحليفيه القطري والتركي في تجريد مصر من دورها الإقليمي، وإحراج السيسي، وزعزعة موقفه. ولذلك، فقد اشترط إضافة إلى «وقف العدوان»، إطلاق المعتقلين الفلسطينيين الذين أفرجت عنهم إسرائيل في صفقة الجندي المخطوف «شاليط» قبل أن تعيد اعتقالهم، كما يطالب بإنهاء الحصار على غزة، وإنشاء مطار وميناء، ووضع رقابة دولية على معبر رفح.

بالمقارنة بعدوان إسرائيل على غزة في 2012، يتضح أن ما يطلبه مشعل ليس سوى محاولة لإيجاد أسباب تبدو «وجيهة» لرفض المبادرة المصرية، ومن ثم إحراج النظام المصري الجديد الذي يواجه تحديات ضخمة.

لقد أسفر العدوان على غزة، في عام 2012، عن مقتل 1400 فلسطيني، وجرح أربعة آلاف آخرين، وهو العدوان الذي توقف بهدنة توصلت إليها «حماس» مع إسرائيل، عبر مبادرة الرئيس «الإخواني» آنذاك محمد مرسي.

لا تختلف المبادرة المصرية التي تم تقديمها في عهد السيسي عن تلك التي وافقت عليها «حماس» في عهد مرسي، بل إن المبادرة الحالية تفتح الباب أمام تنفيذ عدد من المطالب الفلسطينية عبر المحادثات التي تنص على إجرائها بعد بدء سريان وقف النار بين الطرفين.

إذا وافقت «حماس» وبقية الفصائل الفلسطينية المنخرطة في القتال راهناً على المبادرة المصرية، فستكون قد كرست الدور المصري، وقدمت للسيسي ورقة يستطيع بها أن يدشن دوره الإقليمي والدولي، وستكون قد نأت بقطر وتركيا عن «وراثة الورقة الفلسطينية»، وخففت الإحراج والضغط على المصريين، وقدمت ما يشبه «اعترافاً» من «فصيل إخواني» برئاسة السيسي، وبأهلية النظام المصري الجديد.

لا يمتلك السيسي رفاهية أن يخسر الدور المصري في القضية الفلسطينية نفوذه وتأثيره، وإعطاء الانطباع بأن وجود رئيس مثل مرسي في قصر الاتحادية يمكن أن يساعد على إحلال الأمن والاستقرار في المنطقة المشتعلة مقارنة برئيس معاد لـ«الإخوان»، كما لا يمتلك مشعل رفاهية أن يجعل من العدوان على غزة، وإيقافه لاحقاً، وسيلة لتثبيت زعامة السيسي، وانطلاقة لدوره السياسي الإقليمي.

وعلى الجانب الآخر فإن «حماس» لن تكون قادرة على مواصلة القتال في ظل عدم التوازن في القوة العسكرية مع إسرائيل، من دون أن تجد حلاً تفاوضياً يمكن أن يوقف المعركة عند درجة معينة من تفاقم الخسائر.

وسترغب «حماس» في أن ترى المصريين يبتعدون تماماً، وتغل أياديهم في هذا الصدد، في ما يتقدم القطريون والأتراك بحلول، ستكون مقبولة فلسطينياً، مهما كانت متهافتة أو متشابهة مع ما سبق أن طرحته مصر.

لكن الإشكال يكمن في أن أي حل يتم تقديمه لا بد أن يمر من الباب المصري، الذي ستظل الحاجة إليه قائمة بالنظر إلى الاعتبارات الجيوستراتيجية، وبالنظر أيضاً إلى أن معظم القوى الفاعلة في الأزمة تدرك أن المبادرة المصرية تلبي الحد الأدنى من الإنصاف للجانب الفلسطيني، استناداً إلى الظروف الملتبسة التي انطلق خلالها هذا العدوان، وبالأخذ في الاعتبار أن إسرائيل سارعت بالموافقة على المبادرة على الفور، وأن واشنطن تؤيدها وتراها حلاً مناسباً ومقبولاً.

تريد «حماس» أن تقنع العالم بأن إسرائيل شنت عدواناً ضدها دون أي أسباب مقنعة، وأن هذا العدوان يوقع القتلى والجرحى من المدنيين في ظل عدم تكافؤ القوى من جهة، وتريد أيضاً أن تقنع جمهورها في داخل غزة وخارجها بأنها تنتصر على إسرائيل وتمرغ أنفها في التراب، ويجب أن تحصل على مكاسب على أساس امتلاكها قوة الردع، وقدرتها على تهديد أمن إسرائيل وقصف مدنها، من جهة أخرى.

تظل تلك الازدواجية صعبة الاستمرار والحصول على التفهم والاقتناع من الأطراف المعنية، وإن كان سقوط الضحايا الأبرياء تحت قصف آلة الحرب الإسرائيلية الإجرامية يمكن أن يساعد في هذا الصدد.

وبالتالي، فإن التدخل القطري والتركي قد لا يكون قادراً على الوفاء بحل متكامل يمكن أن يكون مقنعاً للأطراف المعنية، خصوصاً أن تركيا اكتفت خلال تلك الأزمة بالتصريحات النارية وإشاعة أجواء الرفض والتنديد بالعدوان، دون أن تتخذ أي خطوة عملية يمكن أن تؤثر في مسار الأحداث. في حين أن تدخل قطر بمبادرة تقبلها «حماس» فوراً سيكون عملاً «مفضوحاً» ومكشوفاً للجميع، خاصة أنها لن تكون قادرة على الضغط على إسرائيل من أجل تحقيق مكاسب جوهرية للجانب الفلسطيني.

جزء من أهداف «حماس» في المعركة الدائرة حالياً في غزة وحولها يتعلق بإحراج مصر وزعزعة مكانة السيسي وتقديم خدمة لتنظيم «الإخوان» وتجريد القاهرة من ورقة إقليمية مؤثرة وتقديمها على طبق من فضة للحليفين القطري والتركي.

ومصر تدرك ذلك، وتتفهم صعوبة أن تخسر هذه الموقعة، وستعمل على إيقاف العدوان على أهل غزة، دون أن تفقد دورها، ودون أن تمكن «حماس» من إحراجها وتلطيخ سمعتها بقدر الإمكان.

لكن سيبقى الإشكال الكبير يتعلق بتهافت الذرائع التي تحرك «حماس»، في هذا المعترك، أمام عدد الضحايا الأبرياء الذين يتساقطون يوماً بعد يوم في غزة.

* كاتب مصري