حين كانت {فاطمة بنت مظلوم بن الصحصاح}، الشهيرة بـ {الأميرة ذات الهمة}، في السادسة من عمرها، أخذت أسيرة إلى قبيلة {بني طيء} وتربَّت على تعلم أساليب الحرب والفروسية، إلى أن هربت وعادت إلى أهلها وابن عمها {الحارث}، الذي طلبها للزواج أكثر من مرة، لكنها كانت مشغولة بالفروسية والحرب، ووجدت في خرائط جدها الصحصاح فاتح القسطنطينية، مادة خصبة في تدريسها نواة الجيش العربي من شباب المحاربين من عرب وحجازيين ونجديين وسودانيين وسوريين وفلسطينيين.

Ad

كانت الحلقة السابقة، بدأت من حيث استطاع جدَّها الصحصاح مواجهة الأعداء، حرصاً على الأمة العربية من الضياع، وأنها ورثت منه كتبه وأوراقه وخرائطه، وباتت قائدة عسكرية لا يشق لها غبار، تنتمي إلى قبيلة فلسطينية، عرفت بتحذيراتها الدائمة من هجوم جيوش الروم على الوطن العربي، عبر السواحل البحرية الفلسطينية.

لم ينقذ {ذات الهمة} من براثن ذلك الزواج المفروض عليها فرضاً، سوى ما جدَّ من أخبار، وهو الزوج الذي أصبحت بالفعل تكرهه بعدما حدث في حضرة الخليفة، إذ تحوّلت جلسة اللقاء الأولى معه للتبصير بالخطر الداهم، ومحاولة جمع الشمل العربي، وطرح قضية الاستعداد للجهاد، إلى قضية ذاتية شخصية، وهي الضغط عليها حتى من جانب والدها، لحملها على الاستسلام للزواج.

لم ينقذ {ذات الهمة}، سوى الأخبار التي داهمت الجميع مثل كابوس جاثم، في عاصمة الخلافة، وهي خروج الروم البيزنطيين، بعد توحيد صفوفهم وجحافلهم الجرارة في تسعين ألف محارب، تتقدمهم سفنهم ومراكبهم، بعدما تساقطت ثغور المسلمين، وقدمتْ وفود الرسل التي تمكنت من الفرار من جحيم الاجتياح الرومي للثغور إلى عاصمة الخلافة، مُحملة بأخبار ومعلومات حربية، خصوصاً ما يتصل بالأسلحة الجديدة التي أدخلها الأعداء، ومنها القنابل النفطية والمفرقعات، والبخور المركب الذي يؤثر في أعصاب المقاتلين العرب، ومنها الخطط البحرية الجديدة التي وضعتها ملكتهم العاتية {مالطينة} وأختها الأميرة {باغة} وقائد جيوشهم المدعو {إرمويل}.

هذا ما ارتأته {ذات الهمة} وحذرت منه مراراً وتكراراً، ويجيء فاجعاً دامياً إلى حد تعريض أمن العرب والمسلمين للأخطار المحتملة، فما إن بزغت شمس اليوم التالي، حتى تواترت الأخبار لتصبح على كل فم ولسان، تقول إن الجند الرومية أعلنت الحرب الغادرة، وإن الروم أسقطوا أمد وقبرص ومالطا وقرطاج واجتاحوها، والأسرى المسلمين بالآلاف، ويقتلون الأطفال ويبقرون بطون الحوامل والأمهات، ويصلبون المحاربين العرب، وإنهم في الطريق إلى البصرة ذاتها، ولم يجد أمير المؤمنين منفذاً سوى جمع وزرائه وقواده واتخاذ إجراءات إعلان الجهاد والحرب.

تذكر الخليفة تحذيرات {ذات الهمة}، فأرسل في طلبها هي وعمها ظالم وقادة بقية الأقوام، من بني عامر وسليم وبني الوحيد، وعقد الاجتماع المفاجئ في مقر الخلافة، فاندفعت ذات الهمة داخلة متشحة بزيها العسكري محيية أمير المؤمنين، فرحب بها مفسحاً لها كي تجلس إلى جانبه، على مرأى من الجميع، حتى من ابن عمها الحارث، وانتهى الاجتماع بإعلان الجهاد ودق طبول الحرب، وتبدت على الفور شجاعة {ذات الهمة} وحماستها في تلك الحملات، التي بدأت بفك حصار {أمد} واجتياحها وفك وثاق الأسرى، ثم التقدم إلى جزيرة {مالطة}.

من بغداد إلى القسطنطينية

غنمت {ذات الهمة} وجندها الأموال والغنائم المُكدَّسة في قلعة الأميرة الرومانية {باغة}، وعلى الفور قرر عمها ظالم حمل غنائم الحرب والعودة بها إلى مقر الخلافة في بغداد، ورافقه أخوه مظلوم، وأمير الحملة الذي عينه الخليفة الأمير عبد الله، وفوَّض {ذات الهمة} أخذ مكانه، خالعاً عليها سلطانه كحاكم للجزيرة المفتوحة، وما يتبعها من أقوام وجزر.

لكن ما إنْ وصلوها وحطوا رحالهم، حتى أدهشهم ما آلت إليه عاصمة الخلافة، نتيجة للموت المفاجئ الذي أنهى حياة أمير المؤمنين الخليفة المنصور، وتولى أمر الخلافة من بعده الخليفة الهادي، فاستقبلهم بالترحاب، وأقاموا أشهراً في عاصمة الخلافة لبحث أمر التزود بالخطط والعتاد، تمهيداً لمتابعة جند المسلمين الزحف والتقدم بثبات باتجاه حصار عاصمة الروم البيزنطيين {القسطنطينية} وفتحها، حتى يأمن الجميع عدوانها وشرورها، كوريثة شرعية لعبودية الرومان القدماء، الذين أنهى الإسلام دولتهم.

وهكذا تحدَّد موعد عقد اللقاءات بين الخليفة الهادي وبين قادة المعارك العرب، تمهيداً لتدارس الوضع الجديد على جبهة القتال، وكانت {ذات الهمة} زوَّدت أمير الحملة المعين من الخليفة العباسي ووالدها مظلوم، بمعلومات موثقة بخرائط وخطط تمهد الطريق لفتح عاصمة الروم القسطنطينية، مع دراسات وافية لاحتياجات الجيش وإمداداته وأسلحته وما يكفيه خلال أشهر الحصار الطويلة، بل لم تنس حتى عادات الروم وتقاليدهم، سواء في الحرب والقتال، أو ما يتصل بأعيادهم الموسمية وكرنفالاتهم.

وكالعادة، وما أن هدأت الحرب لبرهة، تمهيداً لإعادة تجددها واشتعالها، حتى اندلعت على الفور حرب أخرى من المؤامرات والدسائس واستنفاذ الأحقاد الدفينة، كان أكثرها وأخبثها التهاباً، تلك الحرب المندلعة داخل أغوار نفس {الحارث}، وما اعترى حبه السابق لابنة عمه {ذات الهمة} من كره يصل إلى حد المقت، والرغبة في تدميرها وتقويض هيبتها، وقد سنحت بالفعل فرصته، حين تقاعس عن مهامه في حراسة سفن ومراكب المؤن والذخيرة، متخذاً له قصراً مسوراً، واتسعت سلطاته ونما أتباعه.

من جانب {ذات الهمة}، لا بأس، طالما أنه بعيد عنها، لا يقلقها وجوده وترصده لها، باعتبارها زوجته كما هو متبع، إلا أن {الحارث} لم يكن لينشغل عنها وعن مراقبة أفعالها وسكناتها، بل وزفراتها اليومية، التي يحملها إليه بصاصوه وعيونه المنبثة داخل مضاربها، وهكذا تسابق الجميع إلى خدمته، وهو المنوط به حراسة عتاد الحرب، وخطوط تموين الحملات، وما يقع في أيدي المسلمين من سبي وغنائم وثروات، ومن هنا اتسعت سلطات الحارث، وعم ثراؤه إلى حد أصبح مضرب الأمثال، ضارباً عرض الحائط بكل أقوال وتوجيهات {ذات الهمة}، في التيقظ للأعداء، وعدم الاستسلام لحياة المهادنة الرخوة، فما حدث من انتصار على الثغور، ليس إلا حلقة بسيطة من سلسلة متصلة مداها الوصول إلى أصل الدواء ومنبعه، وهو العاصمة {القسطنطينية}.

كل هذا وعين {الحارث} لا تغفل عن {ذات الهمة}، وكيفية الوصول إلى منالها، حلمه الدفين، الذي ينام ويصحو على تحقيقه يوماً، لاستعادة ثقته في نفسه، كرجل وابن عم وزوج، وهو ما أصبح يتوق إلى بلوغه وتحقيقه بسبب النظرات الساخرة الصادرة من عيون أقرب مقربيه، لقد كان الحارث يحس في أعماق نفسه، بمدى الهوَّة العميقة الفاصلة بينه وبين ابنة عمه، فهو أبداً ليس نداً لها، من نواحي: السمعة وعلو المنزلة، القدرة على اتساع البصيرة وتوقع الأخطار المحيطة، القدرة على النزال والفروسية التي تفوقت فيها – الدلهمة- حين نازلته مراراً وتكراراً، وفي كل مرة كانت تصرعه صرعاً تحت سنابك جوادها على مشهد من القبائل، فكيف للحارث أن ينسى كل هذا لـ{ذات الهمة} ؟ كيف؟

 مرض {أم المجاهدين}

تابع {الحارث}، إحكامه السيطرة على دخائل قصر الأميرة {ذات الهمة}، إلى حد استقدام حارسها وخادمها الخاص الذي لم يبتعد عنها لحظة، منذ أن تربَّت في براري الحجاز وفلسطين، وهو {مرزوق} ابن مربيتها ومرضعتها {أم مرزوق}، التي لازمتها حتى في غياهب الأسر، منذ الطفولة.

هكذا تمكَّن الحارث من الوصول إلى خادمها ومصادقته، وكأنه يشتكي له ما به من حب جارف لابنة العم، وزوجته شرعاً، حتى إذا ما آنس إليه الحارس طيب القلب، بادره بمشروع غريب، بعدما أطلعه على سره ومكنونات نفسه، فقد عاجله {الحارث} بزجاجة من الدواء المُنوِّم الذي لو شرب منه جملٌ نقطةً لاستلقى نائماً حولاً، وابتاع الحارث القارورة، بألف درهم من الذهب الصحيح الأحمر، رفضها مرزوق من فوره، إلا أنه قبل الشروع في المهمة لاقتناعه وثقته بمشاعر {الحارث} ومعسول كلامه.

ساعَتها، انطلق {مرزوق} من فوره، مخبئاً الزجاجة الصغيرة بين طيَّات ملابسه، مُتحيِّناً الفرصة التي تتيح له – مجرَّد – صبَّ قطرتين في كأس شرابها وهي التي لا تشرب وتأكل إلا من يديه. بحث عنها طويلاً فلم يجدها، تتحسَّس أطراف أصابعه {أمانة} ابن عمها الأمير الحارث، من دون أن يُثير ذلك لديه هواجس الشك والتخاذل عما اقتنع ووعد به عن طيب خاطر.

إلى أن حانت لحظة عودة {ذات الهمة} من تريّضها، وترجَّلت نازلة عن حصانها، مندفعة إليه وبيده كأس شرابها المفضل، وهو الليمون – البنزهيري- المُثلج، حتى احتستْ كأسها كله قبل أن تخطو إلى داخل بوابة قصرها، ثم خطتْ خطوتيْن قبل أن تترنح عند العتبات، فجرى إليها مرزوق مرتعداً وأوصلها - بمساعدة جارياتها - إلى فراشها.

حتَّى إذا ما احتواها الفراش، تراخت ذراعاها وعلا شخيرها، فتأملها {مرزوق} مُكفهرَّاً مُتخاذلاً، وأصابعه تتحسس القارورة – الطلسم – في جيبه، وعاد فأغلق باب جناحها، منسحباً في توجس مانعاً بقية وصيفاتها، مُغمغِماً:

- {تعبانة}.

أما {مرزوق}، فلم يُفق إلى فعلته، بإيعاز من ابن عمها {الحارث}، إلاَّ بعدما شاهد {ذات الهمة}، وقد استبد بها الإعياء والضعف إلى حد أنها لم تعد تدرك ليلها من نهارها، فتحسس القارورة المسمومة في جيب سرواله، واندفع خارجاً من فوره عبر بوابة قصر {ذات الهمة}، من دون أن ينتبه حتى إلى رد تحية الحراس من أعلى الأسوار، لا يعرف له مأوى يتجه إليه، بعدما أطبق الليل البهيم على شوارع مالطة، وأزقّتها التي خلت من الحركة، وهو الذي لم يسبق له مرة التخلي عن أميرته، التي هي في موقع أخته في الرضاعة، كيف يتركها متخلياً هارباً فاراً على هذا النحو؟

وهكذا لم يفق الخادم {مرزوق} من أفكاره، إلا عندما انتهى به السير ليلاً إلى مضارب الأمير {الحارث} للوقوف على نواياه، وعندما سأل عنه ولم يجده، عاد أدراجه مرتبكاً متعثراً، لا يعرف له مسلكاً.

 

هروب {الحارث}

كان {الحارث} على معرفة ودراية ، بتفاصيل قصر الأميرة ومنافذه، رغم أنه كان قصراً حصيناً، نظراً إلى موقعه المطل على البحر، وكان مرفقاً به كل وسائل الدفاع والتحصين، لأنه هو القصر أو الحصن المنيع ذاته، الذي عانت الجيوش الإسلاميَّة الأمرّيْن قبل حصاره وإسقاطه، تحصَّنت به الأميرة {باغة}، ابنة الملك {لاوون}، وأتخمَته بفاخر الأثاث والمفروشات، جَلبتْها من مختلف الأقطار والأقوام الأوروبية، المتحالفة تحت شارة {الصليب}.

لكم تمنت {ذات الهمة} واشتهت النفاذ إلى جنبات تلك القلعة المنيعة وساحاتها، المُدججة بالسلاح والرسم وفاخر الأثاث والمروج والنغم، ليس طمعاً بما تحويه من نفيس المفروشات وحياة اللهو، بل لأن مبعث ذلك رغبتها المنطلقة من واقع الإعجاب، بموقع القصر – العدو- وصموده وجبروته، المنيع الاقتحام، وهو أمر لم يحصل إلا بالحيلة والخداع.

بعدما تمكَّنت كتائبها، بالخداع والتنكر تحت زي الرومان وسحنهم، من اقتحام القصر وإسقاطه، ومنازلة قائدته الأميرة {باغة}، وقطع رأسها، أجمع مستشاروها على أهمية انتقال – الدلهمة – وحاشيتها إلى هذا القصر، حتى الأمير عبد الله بن سليم ذاته، أمير أمراء الحملة من قبل أمير المؤمنين، طالبها باتخاذه مقراً، والاستفادة مما يحويه من معدات استطلاع للمداخل البحرية، وحركة الرياح والتيارات البحرية والموجات، وطرق الإنذار المتقدمة التي تفوّق فيها الرومان، بل أقسم عليها لحسم الأمر أن تتخذه مقراً لها.

كان {الحارث} على دراية واسعة بدهاليز القصر، وحتى منافذه البحرية، وخزائن مؤنه وعتاده، لذا ما إِنْ تحقَّق من غرضه في تجرع {ذات الهمة} للمخدِّر، من يد وصيفها وابن مربيتها السودانية {مرزوق}، حتى عاجل بالدخول إلى مخدعها، وهكذا وجد {الحارث} نفسه داخل جناح نوم {ذات الهمة}، وبلغ قصده، الذي هو أحد حقوقه الكاملة، كزوج شرعي.

في الصباح الباكر، أفاقت {ذات الهمة}، مُتقلبة في إعياء واضح في فراشها، خالعة عنها أفكارها الليلية وكوابيسها، وهي تتطلع عبر شرفتها الفسيحة إلى البحر المتلاطم الهادر عبر الأفق، لكم حلمت {ذات الهمة} طويلاً منذ الصغر، ومنذ كانت في الحجاز بركوب هذا البحر والإلمام بأسراره ودفائنه، وتحقق لها غرضها ومرماها، حين عادت إلى قبيلتها – الفلسطينية – بعد الأسر، وعثرت على بقايا موروثات جدها الصحصاح – فاتح القسطنطينية – ثروة لا حد لأهميتها من الكتب التي تتخذ من البحر وأسراره وعلومه وأخطاره، مادة لها.

وكان يحلو لـ {ذات الهمة}، كلما داعبتْ عينيها الخيوطُ الذهبية الأولى للشمس المشرقة، سماع تدريبات جند المسلمين، وتكبيرهم العالي، وهم يدقون الأرض بالأقدام، ويتنادون وهم يتبادلون مهام حراساتهم للموانئ والثغور، إلا أنها صبيحة هذا اليوم، استفاقت من نومها على غير عادة، وحين حاولت فتح جانب ضنين من عينها اليسرى، لاستطلاع الشمس ومعرفة الوقت عبر النافذة، لم تستطع، فعاودت الإغفاء والاستسلام لخدر النوم وتسلطه، وكأنها لم تذقه منذ دهر، ما دفع بأقرب وصيفاتها، وكانت امرأة مُسنة تفيض حناناً لها، إلى طرق الباب مرات، وحين لم يفتح، اقتحمته المرأة مندفعة من فورها إلى فراش {ذات الهمة} المُمدّدة الغارقة في حشرجاتها، وما إن قاربتها موقظة: {مولاتي فاطمة}، حتى شَهقت المرأةُ فزعة مما وقعت عليه عيناها.

ما إِنْ انتصبت {ذات الهمة}، فجأة، جالسةً في منتصف فراشها، حتى فقدت صوابها، وهي ترقب ما حل بها، فأيقنت تماماً ما حدث، فنشبت أظافرها في جدائل شعرها، مشيرة بذراعها كله إلى حسامها صارخة:

{سيفي... مرزوق}...

رغم أن {الحارث}، هرب مصطحباً الخادم {مرزوق}، من غضب الأميرة، فإن والده الأمير {ظالم} لم يجد له مهرباً، مما أقدم عليه ولده {الحارث} من إجبار ابنة عمه {ذات الهمة}، وإخضاعها له من دون إرادتها، وكان الأمير {ظالم} غائباً وقتها في صحبة أخيه إلى مقر الخلافة، لتقديم السبايا والغنائم واستشارة أمير المؤمنين في شؤون الحرب، وتردد طويلاً خلال الطريق في كيفية مفاتحة شقيقه {مظلوم}، فيما حدث أثناء تغيبهما.

صحيحٌ أن ما حدث اعتبره {الحارث} في حدود الشرع المتعارف عليه بين زوجين، معقود كتابهما بشهادة أمير المؤمنين، إلاَّ أن أسلوب المُقتحِم المُخادِع الذي أقدم عليه ولده {الحارث}، أفقده كل حقّ وشرعية، بالإضافة طبعاً إلى ظروف {ذات الهمة}، وحالة الحرب الضارية التي تخوضها من موقع القائدة الذي فرضته على الجميع بإقدامها ومهارتها، وانكسارها وما سيجدّ من حمل وتغيب عن المهام العسيرة، التي تتحملها {ذات الهمة}، تنام وتصحو عليها، من إعداد للجند، وتطبيب للجرحى، وبحث في كتبها القديمة.

تساءل {ظالم} كيف يطرح الأمر على مسامع أخيه الأصغر {مظلوم}، وكيف السبيل إلى إقناعه بإعادة جمع الشمل، وإقناع ابنته التي أصبح يخشاها {ظالم} إلى حد عدم القدرة على مواجهتها في ما بعد، وتصور، وهو يجوس مضارب أخيه برفقته حرسه وعياريه وكلابه، أن من الأفضل التراخي في العودة إلى مقر {ذات الهمة}، في {مالطة}، فالأيام والليالي هي الوحيدة الكفيلة بإخماد نيران الانتقام والغضب، ويا له من غضب، سيعاني منه هو وابنه طويلاً.

وحين خرج {مظلوم}، لاستقبال أخيه مرحباً في عبوس، لا يخلو من أحزان دفينة، وهو يطرق كفاً بكف، عَرف {ظالم} ما به، ذلك أنَّ {مرزوق} حارس {ذات الهمة}، كان رافقه والدها إلى مضاربه، وحكى له مرتعداً تفاصيل ما حدث من {الحارث}، بعدما أقنعه بشرعية اجتماعه بابنة عمه وزوجته، إلى حين فراره بصحبة {الحارث}، هرباً من غضب وثورة {ذات الهمة}، وبكى {مرزوق}، مهيلاً رمل الصحراء على رأسه ولحيته، حتى رق قلب الأمير {مظلوم}، لما أصبح يعانيه الخادم حسن النية والمقصِد.

واختصاراً للوقت والجهد، أفهم أخاه بمعرفته بتفاصيل ما حدث، وأن الخير في ما اختاره الله، ووافقه على أهمية تأخير سبل الرحيل إلى مالطة أملاً في إخماد غضب {ذات الهمة}، وحتى لا يأكل الأخ لحم أخيه، تحت سمع وبصر أعدائهم الطامعين، وعرض مظلوم على أخيه أهمية مكاشفة أمير الحملة عبد الله بن سليم، على ما حدث، والكيفية التي يراها لمداواة الجرح الأليم الغائر، الذي أصاب الجميع في غير وقته.

لكنه لم يجد بداً من الموافقة والتعجيل بالانتقال معاً إلى مضاربه، خصوصاً أن ما حدث لن يبعد كثيراً عن أسماعه وحنكته في الإلمام بكل صغيرة وكبيرة، وهكذا اتخذ الشقيقان طريقهما إلى مضارب أمير الحملة، التي لا تبعد سوى مسيرة ساعات منهما، طالما أن الخير في المشورة، حقناً لدماء الأشقاء، قبل استفحال الأمر.

الحلقة الثالثة غداً

قائدة الجيوش تلد {الأسد الوثاب} الأمير عبد الوهاب

سيرة الأميرة ذات الهمة (1 - 5) الصحصاح يُحاصر عاصمة الروم... والوليد يخفي الوصية