إذا اعتُبرت الحرب في العراق قصة نجاح كبير في مجال مكافحة التمرد، تبدو أفغانستان أكثر فأكثر المكان الذي وصلت فيه مكافحة التمرد هذه إلى خواتيمها، فلا يجيد نصف الجنود، الذين دربهم حلف شمال الأطلسي (الناتو)، القراءة. كذلك أنفق الحلف مليارات الدولارات على طرقات لا تقود إلى أي مكان، ومدارس لا مدرسين فيها، وجهود لوقف تجارة هيرويين بلغت ذروة لم يسبق لها مثيل، ومقابل كل هذه الجهود وخسارة نحو 3400 ضحية، حصلنا على إطلاق الرئيس الأفغاني حامد كرزاي عدداً من المساجين في شهر فبراير، فضلاً عن مفاوضاتٍ بشأن الاتفاق الأمني الثنائي خُيّل إلينا خلالها أن حلف شمال الأطلسي يُدعى للرحيل بدل البقاء والمساعدة في تفادي حرب أهلية شبه أكيدة، حتى القادة الذين طبقوا هذه الاستراتيجية، خصوصاً السفير الأميركي السابق كارل إكنبيري، بدأوا ينعون جهود مكافحة التمرد.يدفعنا كل هذا إلى التساؤل عما دفع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي إلى تطبيق حملة لمكافحة التمرد في أفغانستان، فإذا كان القضاء على تنظيم "القاعدة" الهدف الرئيس، فلمَ لم يكتفيا بمحاربة الإرهاب، موجهَين الضربات إلى أعضاء من طالبان يُعتبرون "غير قابلين للإصلاح"، أو بخطة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن المشينة (CT-Plus)، التي قضت بتكثيف جهود محاربة الإرهاب، علماً أن هذه الخطة لم تبلغ، رغم تطويرها، مستوى المساعدة القوية التي حظيت بها الحكومة الأفغانية ضمن إطار مكافحة التمرد؟ بدا في عامَي 2007 و2008 أن جهود مكافحة التمرد تلقى النجاح في العراق، ما أدى إلى ظهور شريحة تنادي بها وبحسناتها في واشنطن، ولكن بخلاف تأكيدات إكنبيري، لم تشكّل هذه مجرد موضة أو تفكير جماعي، بل توافرت أسباب عدة دفعتنا إلى الاعتقاد أن جهود مكافحة التمرد قد تنجح في أفغانستان. ولعل أبرزها الشعب الأفغاني الذي عبّر معظمه بوضوح عن أنهم لا يميلون، بعد تفكير عميق، إلى "طالبان"، وأنهم خضعوا لحكم هذه الحركة لأن الحكومة لم تلبِّ حاجاتهم.بالإضافة إلى ذلك، لقيت استراتيجيةٌ تهدف إلى تحسين حياة الشعب الأفغاني الترحيب من مجتمع دولي مسّته مأساة الأفغانيين. نتيجة لذلك، خصصت المنظمات غير الحكومية المختلفة بعد الغزو الكثير من الأموال والموظفين لأفغانستان، رغم أن هذا البلد كان ولا يزال يفتقر إلى البنية التحتية الضرورية لاستيعاب كل ذلك.في المقابل، ثمة لائحة طويلة من الأسباب التي تُظهر أن مكافحة الإرهاب شكّلت خياراً سيئاً في أفغانستان، ولم يكن النقاد هم الوحيدون الذين شددوا على عدد كبير منها، فغالباً ما أبرزها أيضاً مصممو الحرب ومنفذوها.على سبيل المثال، كرر القادة العسكريون والمدنيون عبارة "أفغانستان ليست العراق" كما لو أنها شعار يبرئهم من أي ذنب. ولعل وجه الاختلاف الأبرز بين هاتين الحربين الملاجئ الباكستانية الآمنة، حيث اختبأت قيادة تنظيم "القاعدة" ونعمت مجموعات مثل شبكة حقاني بحماية جهاز الاستخبارات الباكستاني.علاوة على ذلك، اعتبر كثيرون الفساد عقبةً أمام تطبيق جهود مكافحة التمرد في أفغانستان، فقد وضعت سارا تشايس، مراسلة سابقة لمؤسسة NPR الإعلامية ومستشارة تعمل مع قوات المساعدة الدولية لإرساء الأمن في أفغانستان وهيئة الأركان المشتركة، كتاباً كاملاً عن الطرق التي يساهم بها فسادُ المسؤولين الأفغان المشين وتواطؤ حلف شمال الأطلسي معهم من خلال دعمه هؤلاء المسؤولين في إبعاد المواطنين الأفغان عن حكومتهم. صحيح أن رسالتها سُمعت كثيراً، إلا أنها قلما طُبقت. ويعود ذلك في المقام الأول إلى أن الاستخبارات الأميركية وجهود حماية القوات اعتمدت إلى حد كبير على أولئك المسؤولين الأفغان الفاسدين أنفسهم الذين يستغلون المواطنين الأفغان. نتيجة لذلك، لم تُعتَبر محاسبتهم على سلبهم خزائن دولتهم في حالات كثيرة خياراً مطروحاً.لكن كلمات التحذير التي تبقى أفضلها تلك التي أعلنها وزير الدفاع آنذاك روبرت غيتس في جلسة أمام مجلس الشيوخ عام 2009، فقد ذكر: "دخل السوفيات ذلك البلد مع 110 آلاف جندي، ما كانوا يأبهون للضحايا المدنيين، وعجزوا عن تحقيق النصر". حتى في تلك المرحلة، اعتبر غيتس "الاهتمام بالضحايا المدنيين" (وجه مهم من أوجه مكافحة التمرد) طريقة مشكوكاً فيها للتغلب على المسائل الأساسية عينها التي منعت الروس من السيطرة على أفغانستان، مثل احتقار الأفغان للغرباء وبُعد المناطق. وهنا ينشأ سؤال مهم: لمَ ظنت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، إذاً، أنهما يستطيعان ذلك؟ ترأس غيتس حملة زيادة عدد الجنود وجهود مكافحة التمرد، فما الذي أقنعه هو وسائر أعضاء الحكومة الأميركية وحلف شمال الأطلسي أن بإمكانهم، لا بل عليهم إعادة بناء أفغانستان بغية إنزال الهزيمة بتنظيم القاعدة؟يبدو مرة أخرى أن غياب البدائل الجيدة هو العامل الرئيس الذي قاد الائتلاف إلى اعتماد جهود مكافحة التمرد، ولكن لا يمكن تحديد مقاربة أمة إلى حرب بالاستناد إلى هذا العامل وحده (ومن الضروري عدم القيام بذلك). بعدما دافعت عن استراتيجية الولايات المتحدة خلال عملي في الحكومة، أمعنت التفكير في هذه المسألة. أستطيع بالتأكيد تكرار الأسباب الواردة أعلاه (يكره الكثير من الأفغان طالبان، وما من طريقة أخرى للتخلص من هذه الحركة)، إلا أنني أضيف إليها اعتقادي الراسخ أن الولايات المتحدة وحلفاءها كانوا مصممين على إنجاح جهود مكافحة التمرد، رغم العوامل التي حدتها. نعم، استخفوا بالموارد الضرورية، والإرادة السياسية في الوطن، والتعاون الذي يستطيعون فرضه على الباكستانيين. مع ذلك، بدت الدوافع وراء جهود مكافحة التمرد قوية، ورغم ما قاله كثيرون آنذاك، لم تواجه هذه الجهود انتقاداً يُذكر، فقد دعمها الجميع تقريباً لأنها حرب خيرة.سهّل هذا الموقف دحض التصريحات الشبيهة بما أدلى به غيتس، وهذا ما فعلته بالتحديد عندما طُرحت علي هذه الفكرة خلال حفلة حضرتها في إسلام أباد عام 2009. اقترب مني آنذاك شاب وسيم يرتدي الزي التقليدي وأخبرني أن الولايات المتحدة "ستغرق" في أفغانستان، على غرار السوفيات، فسارعت إلى التفوه بعبارة دفاعية كانت مألوفة جداً في تلك الفترة بين الأميركيين العاملين في جنوب آسيا: "نحن مختلفون عن الاتحاد السوفياتي، ونحاول مساعدة الأفغان. وهذا سيساعدنا في تحقيق النصر بالتأكيد". وتفاجأت حين تراجع ذاك الشاب، لكن مفاجأتي كانت أكبر حين علمت لاحقاً أنني كنت أتحدث إلى عمران خان، رئيس حركة الإنصاف الباكستانية (حزب سياسي وسطي باكستاني) وأحد منتقدي سياسات الولايات المتحدة في جنوب آسيا.رغم لحظة التفاخر تلك، لم أستطع الانتصار على خان، فقد أصاب على ما يبدو في قراءته التاريخ، ومن المحزن التفكير في أن الخسائر التي تكبدتها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في هذه الحرب كانت باسم استراتيجية غير مدروسة، حتى لو حظيت بدعم واسع وبدت منطقية في نظر مَن وضعوها. من الضروري اليوم إبقاء عدد من قوات العمليات الخاصة والبنية التحتية الاستخباراتية في أفغانستان بهدف مساعدة الأفغان في نضالهم المقبل لا محالة. لكن ما تبقى من هذه المهمة سيُزول، مخلفاً وراءه بصمة قد لا تكون مشابهة للمقابر التي تركها السوفيات وراءهم، إلا أنها لا تتناسب بالتأكيد مع ما خططنا له وأملناه، كذلك تبدو هذه البصمة بعيدة كل البعد عما خُيّل إلينا أنه سيحقق هدف الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي بالقضاء على تنظيم "القاعدة"، الذي عثر أخيراً على مراعٍ أكثر خضرة، على ما يظهر.عندما احتاجت واشنطن إلى استراتيجية في العراق ولاحقاً في أفغانستان، أسف كثيرون في المجتمع الدفاعي الأميركي لعجز الأمة عن استخلاص الدروس من مكافحة التمرد في فيتنام. فقد بدا مستحيلاً ألا تحتفظ الولايات المتحدة بمهارات نقدية مماثلة، خصوصاً أن هذه المهارات تُعتبر بالغة الأهمية في هذا النوع من الحروب. ولكن يظهر أخيراً أننا قد نتجاهل هذه المهارات مجدداً. صحيح أن هذا يعكس حالة واضحة من قصر النظر، إلا أنه قد يكشف أيضاً عن إخفاق جهود مكافحة التمرد مرة أخرى. لم يحقق هذا النوع من خوض الحروب النصر بعد للولايات المتحدة، وقد يكون سبب ذلك على الأرجح عجز الولايات المتحدة وحلفائها عن تحمل الخسائر وكلفة الموارد الضرورية لتنفيذ حملة شاملة لمكافحة التمرد. وإذا صح ذلك، فما العقائد البديلة التي نحتاج إلى تطويرها بغية التعاطي مع الحروب غير المتكافئة؟ قد تستغرق معرفة الجواب وقتاً طويلاً، بخلاف الصراعات المستقبلية المحتملة.
مقالات - Oped
نهاية محزنة لاستراتيجية مكافحة التمرد في أفغانستان
02-05-2014