لم ترغمني فيكتوريا نولاند على كتابة هذا المقال، لكنها ساعدتني بالتأكيد. فبعد أن أمضيتُ الأسبوع الماضي في العاصمة واشنطن، فوجئتُ حين لاحظتُ أن قلة من الناس في تلك المدينة يأبهون بأوروبا. يصب الأميركيون اهتمامهم على الصين، والشرق الأوسط، وروسيا، وإيران بالتأكيد، ولكن من وجهة النظر الأميركية، لا تؤدي أوروبا بوضوح أي دور في كل هذا، لذلك يبدو أن العلاقات عبر الأطلسي تحتاج إلى جرعة كبيرة من الواقعية.طوال عشرين سنة على الأقل، كانت العاصمة الأميركية تخسر ميولها الودية نحو أوروبا، فمنذ لحظة المجد الأحادية التي حققتها الولايات المتحدة في تسعينيات القرن الماضي (حين كان النمو كبيراً، كان العالم يبدو بسيطاً والمتدربون في البيت الأبيض ممتلئي الجسم، وكان عميل وكالة الأمن القومي السابق إدوارد سنودن لايزال في المدرسة المتوسطة)، بدأ عدد الأميركيين المؤيدين حقاً لأوروبا يتراجع بلا هوادة. لا شك في أن هذا الوضع ليس جديداً، وقد اعتادته أوروبا، لكن الجديد أن الموالين لأوروبا المتبقين أنفسهم، أمثال نولاند (مساعدة وزير الخارجية لشؤون أوروبا وأوراسيا وسفيرة سابقة في حلف شمال الأطلسي)، انتقلوا من الإخلاص إلى النظر بازدراء إلى قدرة أوروبا على لعب دور بارز في العالم.لم تؤخذ مساهمة الاتحاد الأوروبي في المسألة النووية الإيرانية (بغض النظر عن التهليل الذي حظيت به في أوساط بروكسل) على محمل الجد في واشنطن. كذلك يُعتبر تطبيع العلاقات بين صربيا وكوسوفو مسألة أبسط من أن تثير إعجاب المراقبين الأميركيين. وساهم إخفاق حمل أوكرانيا على توقيع اتفاق الشراكة والتجارة مع الاتحاد الأوروبي الخريف الماضي في تعزيز الإحساس الأميركي العام بعدم جدوى أوروبا.لا تُعتبر ملاحظات نولاند الأخيرة خلال دردشة هاتفية سُربت، عبرت فيها عن استيائها من سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه أوكرانيا بقولها "اللعنة على الاتحاد الأوروبي"، مجرد مصادفة. تعكس كلماتها هذه شعوراً متفشياً: فلا تُعتبر أوروبا غير مهمة فحسب، بل غير فاعلة أيضاً. لذلك أوصت نولاند بأخذ الملف الأوكراني من الاتحاد الأوروبي وتسليمه إلى الأمم المتحدة "لإصلاحه"، ما زاد الطين بلة. فعندما يفضل دبلوماسي أميركي الأمم المتحدة على الحلفاء في أوروبا، ندرك أن الوضع لا يمكن أن يزداد سوءاً أكثر من ذلك.لكنه قد يزداد سوءاً، لأن الأوروبيين اليوم يملكون مشاعر مماثلة تجاه أوروبا. وعندما تجتمع وجهة النظر الأميركية المتشددة من أوروبا مع تنامي صورة الولايات المتحدة السلبية التي تكونها الأولى، يصبح الوضع شديد الخطورة. لا أقصد بذلك وجهة النظر الأوروبية من خليج غوانتانامو، أو الطائرات من دون طيار، أو تنصت وكالة الأمن القومي الأميركية على الهاتف الخلوي للمستشارة الأميركية أنجيلا ميركل. تكمن المشكلة في أن خبراء السياسة الخارجية الأوروبيين، وكثيرون منهم مؤيدون متشددون للعلاقات عبر الأطلسي، يرون إدارة أميركية تستسلم للعزلة الضيقة وتهيم بشكل أعمى في العلاقات الدولية.عندما ينظر الأوروبيون عبر المحيط الأطلسي، يرون رئيساً أميركياً غير مهتم بتقديم قيادة عالمية، يرون دولة أميركية كانت غائبة عموماً حين انطلق الأوروبيون في مغامرتهم الجيو-سياسية مع أوكرانيا، ثم استيقظت في وقت متأخر، وجاءت لتنتقدهم عندما ساءت الأوضاع. كذلك يرون إدارة تركت دول أوروبا الوسطى في مأزق كبير في مسألة الدفاع الصاروخي، ومن ثم تسببت في استياء كبير عندما أعلنت بضجة كبيرة استدارة غير ملائمة نحو آسيا.ازدادت نظرة الأوروبيين إلى الولايات المتحدة سوءاً مع انتقادها شركائها في حلف شمال الأطلسي، الذين يقفون على شفير هاوية الانهيار الاقتصادي، وحضهم على إنفاق المزيد على الدفاع، بغض النظر عمّا إذا كان هذا الطلب محقاً من وجهة نظر عسكرية بحتة.نتيجة لذلك، تحول توجيه اصبع الاتهام إلى وسيلة التسلية الأولى عبر الأطلسي، ولكن إذا تواصل هذا السلوك المتعالي، فقد يهدد حتى آخر المشاريع الأميركية-الأوروبية البالغة الأهمية، الشراكة التجارية والاستثمارية عبر الأطلسي، علماً بأن هذا المشروع لايزال في مرحلة التفاوض.ما البديل إذن؟ يكمن الحل في ما يمكننا أن نطلق عليه "الواقعية عبر الأطلسي". ويبدأ هذا الحل مع إقرار الولايات المتحدة بأن الاتحاد الأوروبي ليس عديم الجدوى، وأن ثمة ملفات لا تستطيع الولايات المتحدة التوصل فيها إلى حل من دون الأوروبيين. صحيح أن أداء الاتحاد الأوروبي يبدو باهتاً غالباً، غير أنه يتمتع بأدوات مذهلة يمكن الاستعانة بها خلال التعاطي مع روسيا وأوروبا الشرقية، ومسألة تركيا الحساسة، وربما (أقول ربما) إيران. في المقابل، لا يملك هذا الاتحاد الكثير ليقدمه في قضايا مثل مسيرة السلام الشرق أوسطية، وسورية، ومصر، والصين.يجب أن يفهم الأوروبيون في الوقت عينه أن على دول الاتحاد الأوروبي القيام بأمرَين:أولاً، يجب أن تنسى الطموحات العميقة والمشاريع التي لا طائل فيها حول العالم. وعليها، عوضاً عن ذلك، تركيز جهودها على مجموعة من القضايا الأضيق نطاقاً. ويجب على الأوروبيين أيضاً القيام بما يصعب عليهم فعله: تحديد الأولويات.ثانياً، ينبغي للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أن تتخلى عن جزء كبير من كبريائها الوطنية وتبدأ العمل على هذه المسائل معاً. فعلى الأوروبيين، في ذلك العدد المحدود من المسائل المهمة على الأقل، أن يتخطوا "نرجسية الاختلافات الصغيرة" التي تحدث عنها روبرت كابلن، والتي تسود بينهم.لضمان نجاح "الواقعية عبر الأطلسي"، يجب أن يجلس الأميركيون والأوروبيون معاً ويحددوا مسارهم السياسي في هذه القضايا كشركاء. ولا شك في أن التخطيط المشترك والدبلوماسية المنسقة سيؤديان إلى تأثير دائم في قضايا أخفقت فيها الجهود الفردية حتى اليوم.لا يعتبر الأوروبيون أن من المنطقي دعوة الروس إلى مساعدتهم في حل المعضلة الأوكرانية، في حين أن الأميركيين لم يشاركوا بعد في هذه الجهود. كذلك على الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ألا يتيحا المجال أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالتفاخر، مؤكدين له أن الغرب مازال يتصرف بوحدة وحزم أحياناً.ستنهي "الواقعية عبر الأطلسي" كل المفاهيم الحالية عن وحدة فترة الحرب الباردة. كذلك ستبدد فكرة أن الولايات المتحدة لاتزال قوية كفاية لتعمل منفردة، وأنه لا جدوى من الأوروبيين. وستقوض أيضاً مفهوم أن بروكسل تستطيع الوقوف على الهامش، بينما تقوم واشنطن بكل العمل الصعب.فضلا على ذلك، ستبدد جرعة من الواقعية الوهم الطفولي عن أنه بإمكان بريطانيا، أو فرنسا، أو ألمانيا التمتع بمجد إنجازاتها السابقة. كذلك ستنهي الحلم الفدرالي عن أن الاتحاد الأوروبي يستطيع أن يكون لاعباً استراتيجياً عالمياً بمفرده، وقد يدفع كل ذلك في النهاية فيكتوريا نولاند إلى استعمال مفردات أكثر لباقة.
مقالات - Oped
البحث عن «واقعية عبر الأطلسي»
20-02-2014