لم تعد أخبار أو أفكار أو كلمات الإسلاميين، ساسة وغيرهم، تثير دهشتي أو انفعالي، ولا أعرف سبباً لاستمرار تهييجها للمجتمع الذي يغضب بذات المقدار على ذات الأفكار، وكأنه يتفاجأ كل مرة بما يتكرر مرة بعد مرة. فتاوى، منع، تهديد، وعيد، آخرها كان تحذير محمد هايف من وضع "أصنام" في أرض المعارض وبعدها أتى تحريم الترحم على مانديلا باعتباره غير مسلم، كلها أحداث وأفكار تتكرر بشكل مستمر، حتى إننا نكاد نتنبأ بها قبل وقوعها.

Ad

لقد أصبح لتطرف الأفكار المطروحة بتكرار مذاق كوميدي مضحك، ولا يزيد سخافة عن تطرف هذه الأفكار سوى ردة الفعل المكررة عليها والغضب المتجدد تجاهها، الذي يأخذ له يومين ويزول. أما حان وقت تغيير الأسلوب وتبديل ردة الفعل وإيقاف دوراننا خلف بعض في هذه الدائرة التي جعلت حياتنا ضرباً من التهريج يتفرج عليه العالم بأجمعه؟

نحن نضيع وقتنا، نحاول الرد بالمنطق على من لا منطق يحكمهم، نغور في أعماق كتبهم لنستخرج الغابر نسوقه حجة على عدم صلاحه للوقت الحاضر، نتفرج على فيديوهاتهم وهم يطلقون الفتاوى ويروون القصص لنتأفف ونتقزز. كم من الوقت ضاع منّا ونحن نقرأ في هذه الكتب ونتفرج على هذه التسجيلات، يمررها بعضنا لبعض بتعليق: "انظر ماذا يقول هذا الجاهل"، "فلان المجنون يطلق فتوى جديدة"، وهكذا، نزعق ونرغي ونزبد، ونزيد موادهم انتشاراً، وننزل بعدها "على ما فيش".

خسارة الوقت والجهد المبذول، كم كنّا سننجز لو أننا بذلنا جهدنا في صنع العقلانية واستحضار التنوير بدلاً من تبديده في الصراع مع الجنون ومقارعة الظلام، لو استخدمنا الجهد والوقت ليس في صد الهجمات ولكن في تحقيق إنجاز ما، فنحن، إن شئت الوصف، المؤمنين بالحرية والمدنية، المعتقدين بالمنطق والعقلانية، لا نتصرف لا بمنطق ولا عقلانية، خناق وزعيق و"كيف يجرؤون" و"هؤلاء المتخلفون" و و و، ثم لا شيء. لا نحقق إنجازاً ولا نحرز تقدماً نتباهي به عليهم. فما هي أفضليتنا؟ وأين هو فضلنا؟

لقد ثبت لي فضل تغيير التعامل مع المشكلة من واقعة شخصية في حياتي. تحصل أولادي على تعليمهم في المدارس الأميركية، داخل الكويت وخارجها، مما تسبب في ضعف لغتهم العربية بشكل أحزن قلبي وأشعرني بالكثير من تأنيب الضمير، إلا أن تجربتي مع ابنتي الوسطى علمتني درساً لن أنساه في التعامل مع المشاكل. كنت، في عارض إصراري على تحسين لغتها العربية، أجلس زمناً أدرسها، لأستحضر بعدها مدرساً خصوصياً لها، حاولت أن أكلمها كثيراً عن أهمية اللغة ودورها في تثبيت التراث وخلق الهوية، فلم يجد شيء نفعاً، إلى أن ظهر أبو نواف في الصورة. وأبا نواف، الفنان الرائع سليمان العماري، هو من فنانينا المفضلين لي ولزوجي، غالباً ما نستمع إلى أغنياته في أيامنا الرائقة، نغني معها بأصواتنا النشاز، نتحاور حولها ونعبر عن استمتاعنا الكبير بها. ذات يوم وصل إلى مسامعي وأنا أمر أمام غرفة صغيرتي صوت أبا نواف يشجو قائلاً: "مر بي واحترش، أهيف مليح الدلال". دخلت عليها فإذا بالصغيرة "المتأمركة" تستمع للأغنية بانصات. بعدها، اهتمت ابنتي أكثر بالغناء العربي، حفظت تقريباً كل ما يغني سليمان العماري، مما دفعني إلى زجرها ضاحكة مرة عندما سمعتها تدندن "زورني في الغبش، استر لحالك وحالي". سألتني عن المعنى وفسرته، وطبعاً، لأنني زجرتها، حَلت الأغنية عندها، واستبد بها الفضول لفهم بقية الأغاني، جرَّنا ذلك للحديث عن التراث وعن الفن وعن السياسة ليس فقط الكويتية ولكن الخليحية كذلك. وبعد أن كدت أفقد الأمل، إذا بأبي نواف يفتح لي باباً كان مغلقاً سنوات ويحقق إنجازاً لم أستطع أنا ومدرس اللغة العربية وكل الخناق والصراع تحقيقه من قبل. كانت رؤيتي ضيقة وأسلوبي مكرراً قديماً، ليأتي الفن فيجدد الهواء ويحقق المكاسب المصحوبة بمتعة كبيرة.  

المثل يقول ليس من الذكاء استمرار اتباع ذات الأسلوب وتوقع نتائج مختلفة، علينا أن نغير طريقة تعاملنا مع الأمور لتتغير النتائج. أن نستغرب ونستهجن ونرغي ونزبد، نتداول فيديو أخرقاً هنا أو خبراً جنونياً هناك ونحن "نطقطق" ألسنتنا أسفاً على سخفهم، ثم نعود إلى أنماط حياتنا ذاتها بكل ما فيها من عنصريات وتطرفات وطائفية، بكل ما يكبلها من يأس وأنانية ولا مبالاة، ونتوقع تغييراً أو نتاجاً، فذاك هو قمة الجنون والمجون الأخلاقيين. المسألة ليست "علم ذرة"، نريد نتيجة مختلفة، علينا بأداء مختلف، هكذا ببساطة.