إحدى عناصر المتعة في ملاحقة الفن التشكيلي في لندن أجدها عادة في المعرض الكبير لفنان كلاسيكي لم أُحط به علماً من قبل بصورة وافية. هنا أتوقع مفاجأة وإدهاشاً، لأن المعارض الشخصية كثيراً ما تكون لأسماء لامعة لدي، في أفق الإعلام الفني والثقافي: دافنشي، كَرَفاجيو، روبنز، أونْغر، دافيد، رامبرانت، تيرنر، مونيه، فان غوخ، غوغان، ماتيس، سيزان، بيكاسو... وعشرات على هذه الشاكلة، التي لا تغيب عن الذهن، أما الفنان «باولو فيرونيسي» (1528-1588) فهو على حواف الذاكرة، لا يقتحمها بالجرأة التي يقتحمها معاصره «تِشِن» (تِتيان) أو «مايكل أنجلو». مع أن لوحاته الكبيرة الأربع في متحف الناشينال غاليري، تحت عنوانها المفترض «أعراض الحب الأربعة»: خيانة، غضب، احترام والاتحاد السعيد، روائع لا تُنسى. مع لوحات ست أخرى لا تقل قيمة. إلا أن استحواذ فنان ما على ذاكرة أحدنا تتحكمُ به، مهما سعينا للمعرفة مخلصين، الصدفةُ ووسائل الإعلام. ولقد اتضح لي في هذا المعرض أن «فيرونيسي» لم ينلْ رضا إعلام الثقافة الفني المحدث، بدعوى أن لوحته لا تسمح بكثير من العاطفة تخرج إلى مشاهدها. مع أن النقاد القدامى يُبهرون أمام قدرته على تمثيل حركة الأجساد عاريةً أو بثياب، وعلى دقة الزخرف، وتوهج اللون في الملابس التي كثيرا ما تشكل عماد اللوحة برمتها. وكذلك قدرته على توهج الضوء دون الاستعانة بالتعارض الحاد بين شطري الضوء والظل، على حد تعبير الرسام «ديلاكروا».

Ad

المعرض الجديد في «ناشينال غاليري» أكثر من رائع. ولأن «فيرونيسي» اشتهر بلوحاته التي تتمتع ببنية معمارية بالغة الضخامة، وبمشهدية مسرحية بالغة الاتساع والتفاصيل، وهي لم تتضمن في هذا المعرض لاستعصاء نقلها، فإن هذه اللوحات البانورامية تظل خلفية مؤثرة لمشاهدتي. إن لوحة «زواج في كانا» التي تتسع لـ66 متراً مربعاً (تعتبر أكبر لوحة في متحف اللوفر بباريس)، ولوحة «مأدبة في بيت ليفي»، التي لا تقل حجماً، (وكلتاهما مستوحيان من الكتاب المقدس) ظلتا مثل خلفية موسيقية من آلات الكونترباص تشحن مشاهدتي للوحات المعرض.

 في قاعات المعرض السبع هناك خمسون لوحة موزعة عليها، بدءاً من أعمال مبكرة أيام شبابه الأول حين كان في مدينة مولده «فيرونا» وانتقاله إلى «فينيسيا» عام 1555. ثم أعمال البورتريت الصغيرة الحجم نسبياً. تليها الأعمال المنجزة للكنيسة، والأعمال التي تعتمد المشهدية المسرحية ذات الصبغة الحكائية، والأعمال الدينية، والسادسة التي تعتمد الأسطورة، والأخيرة التي ضمت الأعمال المتأخرة في سنوات حياته الأخيرة. سعةٌ تحتاج إلى أكثر من زيارة. ولكن الاستعانة في البيت بكرم الإنترنت كفيلة بتكملة المشوار.

 لقد أخذ «فيرونيسي» اسمه من اسم مدينة مولده «فيرونا»، بدأ شهرته بعد انتقاله إلى «فينيسيا»، وإنجازه اللوحة التي تتمتع بخصائص فريدة، في الشكل والموضوع والابتكار الذي لا يخلو من غرائبية. ففي لوحة «عرس في كانا» نجد المسيح يشرع، وهو يتوسط المأدبة، بمعجزة تحويل الماء إلى خمرة. ولكن الفنان لم يترك المشهد تقليدياً. حشر فيه جمعاً هائلاً، من بينهم شخصه هو، وشخص الرسامين «تِشِن» و»تِنْتوريتّو»، وسط ديكور معماري بالأعمدة الرومانية تحاصر الأفق. وفي لوحة «مأدبة في بيت ليفي»، التي تستحضر «العشاء الأخير» للمسيح، نقع على جنود رومان، ألمان، ممثلي كوميديا أقزام، مخمورين، رجل ينزف أنفه دماً، تركي بعمّةٍ، وحيوانات سائبة. هذه الغرائبية كانت موضع تحقيق أجرته معه الكنيسة في حينها ليوضح التضمينات التي رأتها دخيلة في اللوحة وغير لائقة. إلا أنه أجاب: بـ»أننا نحن الرسامين لنا مدى من الحرية تشبه حرية الشعراء والمجانين» و»مهمتي أن أزخرف الكانفس وفق معياري الفني. كل ما كنت أفعله إنما أفعله على هدى أساتذة الرسم في بلدي». وبدل أن يعيد رسم اللوحة، كما طُلب منه، أبدل عنوانها إلى آخر أقل دينية.

«فيرونيسي» توفي في 19 أبريل العام 1588، بفعل إصابته بالبرد.