ليست مصادفة أن السيرة التي اعتُبرت على نطاق واسع دليلاً شعبياً على احترام الثقافة العربية للمرأة، تمثل إحدى أشهر القصص الشعبية العربية التي تعكس القلق العربي القديم، من مؤامرات كانت، ولا تزال، تُحاك ضد العرب. وليست مصادفة أيضاً أن مَن يحافظ على هذه السيرة، كأثر ينتمي إلى الثقافة الإنسانية، هي مكتبات الغرب نفسه.

Ad

تاريخياً، تُغطِّي أحداث هذه السيرة حقبة ظهور الإسلام وانتشاره، من الخلافة الأموية إلى العصر العباسي والأزمة التي عاشها الصراع مع الفرس، فيما عُرف بنكبة البرامكة، وتنتهي أحداثها في عصر الخليفة العباسي {الواثق بالله}.

جغرافياً، تعتبر سيرة الأميرة {ذات الهمة}، قصة فلسطينية، تروي أحداثها تفاصيل حياة أسرة فلسطينية حاكمة، حيث كانت الثغور البحرية الفلسطينية على طول تاريخها، طلائع بحرية أكثر استشعاراً للخطر الخارجي المُتربص بالعرب على الدوام، وشاء القدر أن يأتي آخر استعمار استيطاني في التاريخ، إلى فلسطين قبل 66 عاماً من الآن، وهي الأرض التي انطلقت منها سيرة أميرتنا الفلسطينية المُحاربة {ذات الهمة}.  

يبقى أن نشير إلى أن الطبعة التي اعتمدنا عليها هنا هي طبعة {الدار المصرية اللبنانية}، التي أعدها الباحث والفولكلوري المصري الراحل شوقي عبدالحكيم وصدرت العام 1993.

ذاع صيتُ الأمير العربي الفلسطيني {جندبة} بن الحارث، حتى أصبح حديث القبائل، تتناقل مأثوراته وأخبار مروءته، وفود الشعراء والحكواتية والمدّاحين، على طول ربوع الشام والجزيرة العربية بأسرها.

كان {جندبة} دائم التفكير في الأخطار المُحدقة المحيطة بالعرب وبالمسلمين، أخطار تقلقه وتقض مضاجعه، فعَبْر البحر قاتم الزرقة، تُنسَج المؤامرات وتُحاك الخطط للهجوم على الخلافة الإسلامية، وكم بعث الأمير الهَرِم {جندبة} برُسله إلى خلفاء بني أمية، يطلعهم على ما يحمله هواء البحر من أخطار أقوام الروم البيزنطيين وحشودهم، وعيونهم غير الغافلة عن تلك الصحاري والوهاد، التي لا بد يوماً من أن تطأها جحافلهم الهمجية.

كان {جندبة} استقر رأيه في الأيام الأخيرة، على ضرورة شد الرحال إلى الأراضي الحجازية، لطرح الأمر وأخذ المشورة، وفجأة هبَّ من غفوته، متخذاً طريقه عبر ردهات قصره إلى مخدع زوجته {الرباب}، مُستهدياً طريقه بنصحها ورجاحة عقلها وبصيرتها الصائبة.

وحين تحسَّست أذن {الرباب} حفيف أطراف عباءته، صرفت من فورها جارياتها، بعدما أمرتهن بإعداد القهوة والفاكهة وحليب المساء.

ومن فورها عاجلته بما يعتمل في خاطره ذلك المساء:

- هل آن أوان الرحيل إلى الحجاز؟

- نعم يا رباب... فرأس المشورة وتاجها الراجح في الحجاز وأم القرى.

ضحكت الرباب وهي تأخذ بيده ليحطَّ إلى جوارها على أريكتها:

- أنا جاهزة.

ضاحكها قائلاً:

ـ أنت دائماً جاهزة يا رباب... رغم...

لم يُكمل جملته، فقد التفتَ من فوره مُحيطاً بيديه الاثنتين خصرها في حرصٍ شديد:

ليتني يا رباب يمتد بي العمر حتى أشهد وليدَنا.

اندفعت الرباب مُعلنة:

الصَحْصَاح.

قبل جندبة بطنها:

أجل... هو الصَحْصاح.

كان فكر {الرباب} منشغلاً بالقرار المفاجئ الذي اتخذه زوجها {جندبة} بالرحيل إلى الحجاز، وهي على هذه الحال من الإعياء، حامل في شهرها السابع، تعاني آلام حملها الثقيل.

رغم أن هذا الفصل من السنة كان أكثرها شقاء على خلق الله، قيظاً وسهلاً، لم تعط بالاً لآلامها ومعاناة حملها، بل كانت مشغولة البال، غائبة عن وعيها لا تجد لها ناصحاً أو معيناً.

فزوجها {جندبة} مريض، يعاني الليل بطوله حتى تغمض جفونه، فيستسلم بين أحضانها للسهاد. صحيح أنه لم يجهر لها بشكواه مما يعانيه من آلام المرض، الذي ألمَّ به كاسراً باطشاً على هيئة حمى في البداية، إلى أن حملت الرباب خبر مرضه إلى شيوخ القبيلة وحكمائها، من دون أن تجرؤ على استقدام حكيم، يطبِّبه ويحقِّق له الشفاء.

موت {جندبة}

كان {جندبة} يكره الحكماء والمطبِّبين، ولا يثق أبداً في وصفاتهم وما يشيرون به، وكان حين تفاتحه في الأمر، يطرق مُومئاً:

- يا رباب... الشافي هو الله.

كانت {الرباب} تدرك أن الطريق إلى الأراضي المكرَّمة، محفوفٌ بالمخاطر، والقيظ يطبق على الأنفاس، وهي لم يسبق لها أبداً معارضة رغبة لزوجها أو قرار، فقد أصبح مثقلاً بهموم المسلمين، مهما كانت بساطة ذلك القرار وتلك الرغبة، فما العمل والرغبة هذه المرة هي الرحيل وهدم المضارب.

تسنَّدت {الرباب} على كتف إحدى جواريها المقربات، بعدما أفضت لها بهواجسها، واندفعت من فورها متخلية عنها، مشيرة إلى نسائها وجواريها بجمع حاجيات زوجها أولاً، والحرص على ملابسه وخصوصياته وعتاده وكتبه التي أوصاها، أول ما أوصاها، بالحفاظ عليها، لا سيما خزانة الخرائط التي لم تكن {الرباب} تفهم منها شيئاً، بأوراقها الصفراء وجلودها الملوَّنة، والتي كان {جندبة} يفرد بعضها متدارساً مع بعض فرسانه ليلاً في أيام الشباب الخوالي.

تنهدت {الرباب}:

-رباه.

فالله وحده يعلم ما بها من آلام الحمل والخوف من مخاطر الطريق وشروره، {لكن ما في اليد حيلة} إزاء رغبة زوجها المتلهِّف للرحيل إلى مكة.

وحين تذكرت {الرباب} وليدها المقبل، انفرجت أساريرها فرحةً مُستبشرة، وهبَّت من فورها في حماسة مفاجئة، مُعطية أوامرها بالإسراع في الرحيل.

لكم عانت الأمرّين، وزوجها وابن عمها مستلق طريح فراشه، يتألم من دون أن يسمح لزواره من شيوخ القبائل، ورسل الخليفة أمير المؤمنين في دمشق، بزيارته وهو في أقصى حالات آلامه، مطلقاً العنان لأفكاره وهواجسه المرافقة لمسير المعارك واتجاه الحرب الطاحنة الدائرة، التي لم تكن لتغيب أحداثها لحظة عنه وعن مخيلته، و{الرباب} بدورها لن تنسى أبداً لحظات عودة {جندبة} المنتصر، مجلَّلاً بأقواس النصر، وتنزف دماؤه على جسده وساعديه، مثل أرجوان أحمر دام.

نزل الأمير وزوجته الفاتنة {الرباب}، بوادي مزهر في أرض الحجاز، ونصب جنده وحرسه المضارب على قمة ذلك الوادي الفسيح، المخضب بروائح المسك، تخالطها روائح الذبائح المشوية، وأقيمت الاحتفالات الليلية التي كانت توليها {الرباب} عناية خاصة لإدخال السرور إلى قلب الأمير المثقل بعذابات العرب على طول صحاريهم ووهادهم، لما يحيطهم من أخطار لم تخفت نيرانها يوماً.

ارتفعتْ أصواتُ الموسيقى، وإيقاع رقصات {الدبكة}، يخالطه إيقاع المجرودات والمعلقات العربية، وجاء صوت الشاعر مشحوناً مُعبّراً، وهو يصف الغدر المكين لحربة {جسَّاس بن مُرة} تخترق ظهر الجد الأكبر، عمود السرايا، {كليب} ملك العرب.

مولد الصَحْصاح

في تلك الليلة القمرية، اشتدَّت شجون {جندبة} لزوجته وابنه الذي سمياه قبل ولادته {الصحصاح}، فانتقل إليها وتمدَّد في إعياء داخل خبائها، وأفاض في الحديث عن ولده، وأهمية إرضاعه منذ المهد كُره الأعداء، مع لبن الأم.

ومات {جندبة} قبل أن يكمل مشواره، وشقَّت عليه البنات والأمهات الصدور، وبكته النائحات، ودُفن في وادي الصفا والمروة، وحين ولد {الصحصاح}، مُتخلياً عن بطن أمه {الرباب}، ولد في العراء، برياً، كوحوش الصحراء، يتيماً مغترباً، مُحاطاً بحنان الأم الكسيرة.

ومنذ نعومة أظفاره شبَّ {الصحصاح} على ظهور الخيول العربية التي أحسن اختيارها ومعاشرتها، تربى على عتاد الحرب والجهاد انتظاراً لليوم المشهود الذي تنبأ به الأب الراحل يوماً عبر وهاد الحجاز، وهي النبوءة التي أطلت برأسها يوماً، باتجاه التحقق على رمال الصحراء.

تلحَّف {الصحصاح} اليافع بالعراء، وغفا ثم تيقظ على شبح شيخ مُسنّ، بيده مقبض جواد شهير عالي الهامة بين العرب يدعى {اللاحق}، هامساً في أذنه:

ما خابتْ التربيةُ فيك يا {صَحْصاح} يا ابن {جندبة}.

وأغدق الشيخ المحسن العطايا للصحصاح، من خيول وجِمال بأحمالها ورؤوس أغنام ورعاة وجند وسيوف عواقل.

ومنذ شبابه المبكر، تبدت فروسيته بين القبائل حين تصدى لملوك {حضرموت} في عشرين ألف فارس، وحين حالفه التوفيق فأنقذ ابنة الخليفة {مروان بن عبد الملك} وامتطى فرسه – الشهباء، فكافأه الخليفة بالمجيء إلى عاصمة الأمويين، ودخل أبواب دمشق محاطاً بجنده من أبناء الأمراء وهم يرشونه بالملح والجوهر، إلى أن دخل قصر الخلافة، فاحتضنه الخليفة سائلاً عن حاله فأنشد:

إن كنت من أرض الشام مناظري

نحـو الحجاز مخيط لا يطرف

ليـلي بليـلي طال حتى إنه

فـي كل جارحـة فؤادي يزحف

وأغدق عليه الخليفة الهدايا والعطاء وعقد عزمه على جنده، ورافقه في رحلات صيده وقنصه، وهو يعده عاقداً العزم على أن هذا الفارس الفتى الصحصاح، هو المنوط به منازلة {تحالف الأروام}، المتربصين وملكهم المـتآمر، {برجيس}.

حصار الروم

وأعدَّت الجيوش والرجال، وانطلق الصحصاح والأمير مسلمة ابن الخليفة عبد الملك بن مروان، على رأس جيش جرار لمقاتلة الروم والبيزنطيين، وكان زاده شجاعة لا حد لها وخبرة في الخرائط التي ترسم الجزر والثغور والمسالك البحرية الصعبة، ولكن كان بانتظاره فخّ نصبه الأعداء له.

لم تفلح الحيلة، التي دبرها الأعداء للإيقاع بالأمير الصحصاح، وهو الخبير العالم بخداع وتآمر أعدائه المنهزمين، وكيف أن الحرب في عمومها خدعة، لذا ما أن دوَّى صوته عالياً مكبراً، حتى أحاطت كتيبة مدربة من جند المسلمين بالمغارة، ما أوقع الهلع في قلوب العساكر الرومية، فولوا هاربين، بعدما عملت فيهم سيوف الأمير الصحصاح ومسلمة، فتساقطت الرؤوس الواحدة بعد الأخرى، وأولهم الرسول المتآمر، ومن قدَّر له بلوغ رأس المغارة تلقته سيوف الكتيبة التي سبق للصحصاح إعدادها، ومراقبة ما يحدث خفية.

بل إن هذه الواقعة، ترسبت غائرة في أعماق ذاته، متابعة ترددها بين صفوف بقية كتائب العرب، على طول الجزيرة، فدقَّت طبول الحرب والرحيل، وزحفت صفوف المسلمين إلى سطوح الكتائب والمراكب والعمائر الرابضة على طول السواحل لتسد كل المنافذ على جند الأعداء، وهنا علت الأصوات مكبرة ومعلنة: إلى القسطنطينية... إلى القسطنطينية.

وعبر أمواج البحر الهادر، أعاد الأمير الصحصاح قسمه ووعده لأمير المؤمنين الخليفة الأموي، {والله لا أرجع إلى خليفة المسلمين، حتى أفتح القسطنطينية وأبني فيها مسجداً للخلافة}.

كانت أمنية الصحصاح عسيرة بعيدة المنال، وهو القائد المتمرس بالموانئ والثغور المحيطة بالقسطنطينية، بل هو على معرفة يقينية بعاصمة التحالف الرومي البيزنطي، ومدى ما تمتاز به أسوارها وحصونها من تعزيزات، ويكفي في هذا الأمر، القنوات المحيطة التي كثيراً ما أغرقت أعتى الجيوش المدججة، ومنها أيضا بعض الفيالق العربية، التي غرقت بكاملها داخل سراديبها.

كان الصَحْصاح على معرفة واسعة بمدى صعوبة ووعورة ما سبق له أن قطعه على نفسه في بلاط أمير المؤمنين، بألا يعود إلى أرض العرب، قبل أن يفتح القسطنطينية، وعبر تأملاته الليلية لأمواج البحر الفسيح الهادر، التي تمخره السفن العربية المحملة بالجنود، ما بين المقاتلين العرب الحجازيين والنجديين والطائيين، جنباً إلى جنب مع القبائل الفلسطينية والسورية والمصرية واللبنانية وهم البحارة بُناة السفن، الذين عرفوا هذه الطرق البحرية وجابوها منذ الأزل، فأنشأوا المدن والثغور البحرية، التي اتخذوها مراكز لتجارتهم التي كانت مضرب الأمثال.

كان يحلو للأمير {الصَحْصاح} متابعة التأمل، من دون أن تغفل عيناه عن جنده وواجبه كقائد يقظ مؤتمن على حياة جند المسلمين، وتلك الثقة المشوبة بالحذر التي أحاطه بها أمير المؤمنين الخليفة عبد الملك بن مروان.

إلى أن جاءت لحظة حماسة، ذات يوم، في حضرة الخليفة، وأمير الحملة ولده المقرب الأمير مسلمة، حين انتصب واقفاً على قدميه الاثنتين، رافعاً ذراعه عالياً على رؤوس الأشهاد، مطلقاً قسمه وتعهده الذي أصبح بسببه لا يذيق عينيه غفوة الراحة، والنوم مثل بقية خلق الله: {والله لا أرجع إلى خليفة المسلمين، حتى أفتح عاصمة الروم، قسطنطينية، وأبني فيها مسجداً لأمير المؤمنين}.

وحين حطَّت قوافل العرب وبوارجهم وعمائرهم على تخوم عاصمة الروم البيزنطيين، بدت المدينة مظلمة ضئيلة الحركة وكأنها مدينة للموتى، وليست عاصمة للتحالف الأوروبي بأكمله المتربص منذ الأزل بالعرب والمسلمين، انتظاراً لتحين فرص الوثوب، لفرض الإذلال والهيمنة.

بل إن دوام الحصار، دفع الصحصاح إلى إعلان شارات التحدي لملك الروم وقادته صباح مساء من دون مجيب، حتى إذا طال أمد ذلك الحصار العربي لعاصمة الروم، وبدأ الملل يدب بين صفوف الجند والكتائب، استشار الأمير مسلمة الصحصاح، بالشروع فوراً في إنشاء الحصون والأبنية المجاورة للعاصمة، التي تابعت، مع توالي الأيام والسنين، النمو والازدهار، إلى أن شرع الأمير مسلمة في إطار العزم والمثابرة وإطباق الحصار، في بناء مدينة مقابل القسطنطينية سماها {المستجدة}، وقسم لكل طائفة طرقاً وأحياء فيها، وعمرت المدينة وصارت متسامقة عالية البنيان والأسوار، مليحة الأركان، كأنها مدينة نبي الله سليمان.

 

ظالم ومظلوم

وحين طال أمد حصار جيوش المسلمين للقسطنطينية الذي فاق أربعة أعوام، لم تغفل فيها عين الأمير الصحصاح عن زوجته وحبيبة قلبه الوفية {ليلى}، وكان علم بوضعها لولديه ظالم ومظلوم، على مدى سنوات الحرب المستعرة التي لم تترك له يوماً لرؤيتهما منذ رحيله عن أرض الحجاز إلى دمشق، وزيارته الخاطفة لها عقب فتح مالطة. إلا أن الحصار المديد لعاصمة الروم، أعاد إلى مخيلته الحنين الجارف إلى زوجته وولديه، فتمنى مشتهياً رؤيتهم، والتعرف إلى أحوالهم، ودأب على إرسال الرسل إليهم وحملهم الهدايا من ملبس ومأكل وتحف وجواهر.

وكانت أخبار الانتصارات العربية، تتوالى إلى عاصمة الخلافة مدوِّية، شاحذة للهمم، حتى الخليفة عبد الملك بن مروان، دأب على إذاعتها بين العواصم العربية أولاً بأول، وعلى مراسلة ابنه الأمير مسلمة وقائد حملات جيش المسلمين الأمير الصحصاح، يحثهما على التقدم والجهاد والسهر على حراسة ثغور الخلافة من دون هوادة.

وحتى عندما اشتد عليه المرض، ولزم فراشه، حرص على استقبال الرسل، وسماع الرسائل، والرد عليها بنفسه، مُسدياً المشورة، مُنبهاً الأذهان إلى أهمية إخفاء مرضه ولزومه فراش الموت، حتى لا يتسرب إلى صفوف الأعداء، فتقوى عزائمهم، ويطمع طامعهم.

ورغم حنينه، وهو يعاني سكرات الموت، إلى مجرد رؤية ولده المظفر مسلمة، فضل بقاءه لمتابعة حراسة تخوم خلافة المسلمين، إلا أن الخليفة المحتضر عبد الملك بن مروان، أوصى لمسلمة بالخلافة، قبل ولده الثاني الوليد، ومن جانبه فضل الوليد، إخفاء وصية الأب طمعاً في الخلافة التي مارسها، بالفعل، طيلة فترات مرض الخليفة الوالد.

بل هو، أي الوليد بن عبد الملك، كشف عن نواياه الدفينة لأتباعه ومريديه بالحيلولة دون تسرب خبر الوصية إلى أخيه الأكبر مسلمة، والعمل على إبعاده أكثر بالحرب من دون العودة، ولو للمشاركة في شعائر دفن الخليفة، وظل يكاتبه باسم الخليفة الوالد لمدة خمسة أعوام متخوفاً من جنده البالغ عددهم خمسين ألفا، ومن انتصاراته والتفاف الأمصار حوله، كبطل فاتح.

وفي العام السادس عاد الأمير مسلمة، بعدما تحقق فتح القسطنطينية واستسلام ملكها لشروط المسلمين، وأقيمت الزينات والأفراح على طول عاصمة الأمويين دمشق.

ودخل الأمير مسلمة وقائد الجند المنتصر الأمير الصحصاح قصر الخلافة المزين بأقواس النصر، وحين عانقه الخليفة الجديد الوليد بن عبد الملك بن مروان مقبلاً سائلاً عن حاله، أنشد الصحصاح:

أقولُ وقد طال اشتياقي إليكم

وقد غبتُ عنكم في جهاد العدا دهراً

وضاقت عليَّ الأرضُ شوقاً إليكم

ولم يبق لي من بعدها صبرا

ودامت أفراح الانتصار ومباهجه أياماً، وبذل الخليفة الأموي الجديد الوليد بن عبد الملك كل جهد، في محاولة إخفاء وصية والده أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك بن مروان، التي أوصى فيها بالخلافة من بعده، لابنه مسلمة، الذي كان بدوره مشغولاً بالحرب والجهاد، بعيداً عن عاصمة الخلافة، وما يعتمل داخلها من صراع احتدم لهيبه طيلة فترة مرض أمير المؤمنين وانشغال الأذهان والمشاعر بالحرب المستعرة التي يقودها الصحصاح والأمير مسلمة.

كان الخليفة الراحل سليمان بن عبد الملك بن مروان، يعتقد أن البلدان العربية والإسلامية، في أشد حاجة إلى قائد مجاهد صقلته ظروف الحرب، وأدمته المعارك، قبل أي شيء، وهو ما لم يعره شقيقه، الخليفة الحالي، الوليد بن عبد الملك التفاتاً، إذ اجتذبته إغراءات السلطة والتسلط في غيبة الموصى له، شقيقه مسلمة.

من هنا تكاثرت الهموم على الخليفة الوليد بن عبد الملك، منذ أن تواترت إليه الأخبار بعودة أخيه مسلمة، برفقة قائد الجيوش الصحصاح، تحيط بهما أقواس النصر، ويتصدران مطالع الجيش العربي الزاحف، محملين بالعروش والتيجان وأسلاب الأسرى من قواد وأمراء جيوش الروم، ما بين يونانيين وبلغار ورومان وغاليين أو فرنسيين، يرفلون في أصفادهم وقيود سبيهم، بينما تكبير الآلاف المؤلفة من المسلمين يصم الآذان، على عتبات وبوابات قصر الخلافة.

شَحذ الخليفة الوليد بن عبد الملك كل فكره، في الكيفية التي عليه أولاً اتخاذها، لإخماد ذلك التدفق بالحماسة الذي سرى من أطراف عاصمة الخلافة، وتواتر إلى بقية كيانات الأقوام العربية، ولم يجد الوليد منفذاً سوى الإسراع بعزل القائدين وشق وحدتهما، شقيقه الأمير مسلمة، والأمير الحجازي القائد الصحصاح، ووافق الوليد على رغبة الصحصاح في العودة إلى الحجاز، لرؤية زوجته وولديه ظالم ومظلوم.

إلى هنا انتهى دور الصحصاح، الذي عاد إلى تربية ولديه، اللذين كبرا، وتزوجا، فأنجب ظالم ولداً سماه {الحارث}، وأنجب مظلوم بنتاً سماها {فاطمة} عرفت في ما بعد بالأميرة {ذات الهمة}.

الحلقة الثانية غداً

{أم المجاهدين} تحترف الفروسية وتحاصر جيوش الأعداء