هل ترتكب الصحافة جريمة وتنسبها إلى الأبرياء فتدمر حياتهم؟ هل تظلم الصحافة امرأة وتتهمها بالخيانة الزوجية لإرضاء نظام حكم، وهل تعود لتنصفها بعد 40 عاماً؟ قد تبدو الأسئلة غريبة وغير منطقية، لكن الإجابات في تفاصيل قصة «نوال» هانم، الكفيلة بتغيير ثوابت عدة وفتح ملفات كثيرة.

Ad

دفعت تلك المرأة الفاضلة ثمن هذه الجريمة وظلت متهمة ولم تظهر براءتها إلا بعد أكثر من 43 عاماً، وعلى صفحات الجرائد والمجلات نفسها التي حولتها من سيدة فاضلة إلى زوجة عبثت في شرف زوجها وخانته... دعونا ندخل إلى التفاصيل المثيرة مباشرة. نتعرف إلى الخبر الذي أثار ضجة وكان سبباً في الإشاعات المدمرة... لتبدأ قصة المرأة التي اعتذر لها كبار الكتاب قبل فترة بسيطة من رحيلها.

نوال هانم زوجة الطبيب الشاب أيوب، كان والده وزيراً ملء السمع والبصر، وعم زوجته رئيساً للوزراء في النظام الملكي في منتصف الأربعينيات. لكن بعد ثورة 23 يوليو 1952، أراد بعض الصحافيين ركوب الموجة ومجاملة الثورة، التي قادها الضباط الأحرار، من باب التطوع والانتقام من كبار رجال العهد الملكي البائد كلهم... ومن نسائهم أيضاً... وبدأت الحكاية بخبر عن مصرع الدكتور أيوب نجل الوزير علي أيوب، وكان رئيس الوزراء (عم زوجة القتيل) هو الرقيب على الصحف فلم يسمح بنشر تفاصيل مصرع زوج ابنة أخيه لسبب خاص بالعائلة... وانتهزت الصحافة الفرصة بعد الثورة لتجعل من الوفاة قصة مثيرة يسيل لها لعاب القراء، خصوصاً أن الملك كان طرفاً فيها ودارت وقائعها في حجرة نوم الطبيب القتيل... لتبدأ الأكاذيب والأحداث تتوالى حتى تحول الخبر الصغير إلى قضية ضخمة شغلت الرأي العام.

نشرت الصحف بعد الإطاحة بالملك فاروق أن الرئيس جمال عبدالناصر قد أمر بالتحقيق في حادث مقتل الدكتور أيوب علي أيوب، والذي وقع قبيل الثورة مباشرة ويتردد أن الملك فاروق شخصياً قتله بعدما وجده الطبيب في فراش الزوجية في منزله... وبدأت ألسنة الناس تتناقل الخبر المثير، وأصبحت نوال أشهر زوجة خائنة في بر مصر كلها.

تفاصيل الجريمة

راحت الصحف القاهرية تروي وقائع قصة الخيانة الزوجية العظمى في تفاصيل أكثر من مثيرة... ولم يكن القراء يعلمون ما سوف تقوله الصحف نفسها بعد أربعين عاماً. قالت الصحف في الخمسينيات وهي تصور الحادث للقراء: وقائع الخيانة جرت على النحو الآتي:

عاد الدكتور أيوب علي أيوب إلى منزله فجأة. كان يتشكك في زوجته رغم أنها لم تكن طاغية الجمال، ولا مثيرة الأنوثة، ولا فائقة الحسن، فهي امرأة عادية في كل ما يتعلق بفتنة المرأة وأنوثتها. كانت تشتهر بتدينها ومواظبتها على فروض الصلاة... وأبرز ما فيها كان يرجع إلى كونها ابنة شقيق رئيس الوزراء وحاكم البلاد العسكري.

أما الزوج فكان أيضاً من سلالة الباشاوات والأثرياء وعلية القوم، فهو نجل الدكتور علي أيوب الوزير اللامع والمتحدث اللبق، وصاحب العلاقات السياسية والعلمية الواسعة... وقد زوَّج الوزير اللامع على أيوب ابنه الطبيب الشاب أيوب بنفسه... اختار له شريكة عمره ورفيقة حياته السيدة نوال، ابنة شقيق رئيس الوزراء، لتصون شرف ابنه وتحمي عرضه، فهو ابنه الوحيد ويخشى أن يتركه لأهوائه فيختار زوجة تهدم حياته، أو تعوق نجاحه، أو تبيع كرامته وشرفه.

هكذا أتى الزواج، كما صورته الصحف، جافاً ومملاً وفاتراً، يستند إلى العقل أكثر من العاطفة، إلى رأي الأب الوزير، والد العريس، وعم العروس رئيس الوزراء، من دون أن يكون للطبيب الشاب أو عروسه نوال هانم رأي واختيار مسبق. زواج صالونات بارد، فضلاً عن رائحة المصلحة الواضحة في زيجة تقرِّب والد العريس من عم العروس سياسياً.

تزوج الطبيب من عروسه نوال، ولأن الزواج ولد جافاً بلا عاطفة، فقد استمرأ الدكتور أيوب الغياب عن منزله كثيراً ودأب على السهر، إما متسكعاً مع طبيبات المستشفى حيث يعمل، أو متصعلكاً مع أصدقائه من أبناء الباشاوات والذوات. وجاء من يهمس في أذنه بمصيبة انتفض لها ورفض أن يصدقها في البداية. هانت الدنيا في عينيه، كيف يحدث هذا؟ هل معقول أن زوجته تخونه؟ ومع من؟  بعد ساعات من الهمسة الأولى، جاء آخر يهمس له بالمعلومة نفسها.

انفلتت أعصاب الطبيب الشاب، تخيل فراش الزوجية الذي يفترض أن يشهد صولاته وجولاته ينتهك وهو يدنس كل ليلة. اتسعت هواجسه، ملأته الشكوك. لا بد من أن ما يسمعه من أصدقائه له صدى في الحقيقة فلا دخان بغير نار... لكن كيف وزوجته لا تفارق سجادة الصلاة وهو في المنزل. تتحشم في ملابسها وحديثها وحركاتها. كان يظنها متزمتة، أو أن تدينها جعلها امرأة أقرب إلى الرجال منها إلى النساء. الآن بدأ يترجم هذه التصرفات على حقيقتها. إنها تبعده عنها. المرأة عندما تريد أن تتفرغ لعشيقها تتحول إلى مخلوق ثالث، لا هي رجل ولا هي امرأة. تتفنن في النكد والقرف. لا يراها زوجها إلا وهي نائمة أو متثائبة... وثمة امرأة تلجأ إلى حيلة أخرى تحت ستار الدين والتدين... هكذا اختلطت الهواجس في رأس الطبيب الشاب وفقد أعصابه. لكنه قرر أن يتصرف بهدوء.

عاد أيوب إلى منزله مبكراً على غير العادة. فتح باب شقته في هدوء، تسلل على أطراف أصابعه، تمالك أعصابه. يبدو أن ما سمعه حقيقة. حجرة نومه مغلقة، يشع من زجاجها ضوء خافت وأصوات متهدجة مختلطة بالنشوة. اندفع أيوب بكل قوته كالمجنون، حطم باب حجرة النوم لتقع عيناه على أبشع مشهد في حياته، وآخر مشهد... زوجته في أحضان ملك البلاد الملك فاروق الشاب... هبت زوجته من جوار الملك وهي نصف عارية... وقفز الملك من سرير الدكتور في قمة غضبه. كانت الزوجة تبحث عن شيء تستر به نفسها أمام زوجها، كأنه هو الذي أصبح غريباً عنها. وهكذا تتصرف الخائنات في لحظات التلبس... لحظة واحدة أضاعت حياة الطبيب الشاب.

لحظات الخطر

تجمد المشهد لحظات بين الزوج المغدور وبين الزوجة الخائنة والملك المكلل بالعار. قرر أيوب إخراج مسدسه... وصوبه نحو الملك أولاً. كان يمكن أن ينتهي حكمه بفضيحة مدوية. كان يمكن أن يتحول الملك برصاصة يصوبها إليه مسدس الطبيب الشاب إلى أفجر ملوك التاريخ. كان سينفرد دون باقي ملوك العالم، قديماً وحديثاً، بأنه الحاكم الوحيد الذي ترك الحكم في حجرة نوم غيره، وقبل أن يستر نفسه. كان يمكن أن يصبح خبر مقتل ملك مصر كلها فضيحة كبرى تتصدر الصفحات الأولى في أشهر الصحف العالمية، بعدما تتناقل الوقائع المخزية وكالات الأنباء العالمية، لولا أن ارتعشت يد الطبيب الشاب، فاهتز المسدس في يده، بينما عيناه تخفيان أنهار دموع حبيسة... وهنا كانت يد الملك أسرع وأكثر اتزاناً وأدق تصويباً... أطلق رصاصة من مسدسه نحو رأس الطبيب الشاب. ركضت نوال هانم حاملة ملابسها نحو الحمام، وتناثرت دماغ الزوج الشاب مثل قطع لحم صغيرة لتفرش أرض الحجرة، بينما تمددت جثته في منتصف الغرفة غارقة في دمائها. أعاد الملك مسدسه إلى مكانه وغادر الحجرة إلى باب الشقة وهو في قمة القرف.

كانت هذه هي تفاصيل الحادثة كما صورتها صحافة القاهرة في منتصف الخمسينيات، عندما كانت حملة التشويه للملك فاروق في قمتها، لذلك لم يتشكك قارئ في هذا التصوير الذي جاء متفقاً تماماً مع إشاعة روجها البعض في أعقاب نشر الخبر. نشرت الصحف خبر الوفاة مبتوراً... وبشكل أوحى إلى الناس أن سراً خطيراً قد وقع، خصوصاً عندما وقف وزير الداخلية آنذاك، فؤاد باشا سراج الدين، في البرلمان يعترض على أسلوب رئيس الوزراء في الرقابة على الصحف بصفته حاكماً عسكرياً للبلاد... وضرب وزير الداخلية في بيانه مثلاً بحادث انتحار الطبيب الشاب نجل الوزير اللامع، وإصرار رئيس الوزراء على أن تنشره الصحف على أنها وفاة عادية من دون ذكر واقعة الانتحار، ما أتاح الفرصة للإشاعات بعدما عرف الناس أن الطبيب الشاب مات مقتولاً وقالت الصحافة إنه تُوفي بأزمة صحية.

كان واضحاً أن مصرع الطبيب الشاب يحمل معه لغزاً لم تغامر الصحافة بنشره... أو تم منعها من الاقتراب منه وتعريته، فانطلقت الإشاعات... وبما أن العريس نجل وزير لامع من سلالة الباشاوات والذوات، والعروس من صلب رئيس الوزراء، فلا بد كما تخيل مروجو الإشاعات من أن يكون الملك فاروق قد دهس عش الزوجية، ونظرت عيناه على زوجة نجل الوزير. هكذا كانت بداية الإشاعة التي استغلتها الصحافة بعد ذلك في تشويه صورة الملك وتلويث سمعته. لم تكن الصحافة يهمها نجل الوزير، ولا ابنة شقيق رئيس الوزراء. كان المقصود هو الملك، لذا تسابقت الصحف في هز صورته لتكسب رضاء النظام الحاكم الجديد. فالملك ما زال يشكل خطراً، وتشويه سمعته يوماً بعد يوم يقضي على البقية الباقية منه. وليس أفضل من ركوب موجة الإشاعات التي جعلت فاروق زير نساء، ومناضلاً في الملاهي والكباريهات وحجرات نوم الغانيات والخائنات. كانت إشاعة عشقه زوجة الطبيب الشاب ما زالت «طازجة» ترددها الألسنة في كل مكان قبل قيام الثورة، فلماذا لا تحولها الصحافة إلى واقع بعد قيام الثورة. لماذا لا تحولها إلى واقعة أدلتها دامغة، وشهودها لا يرقى إليهم شك، ووقائعها تثار في قاعات المحاكم.

أتوا بالأب إلى المحكمة، وقف الوزير السابق يبكي أمام المحكمة، أجبروه على أن يشهد بصحة الإشاعة. كان يعلم ثمن معارضته، فالسيف ما زال فوق رقاب الباشاوات والبهوات وهوانم نظام الحكم السابق. وقف الرجل مترنحاً أمام القضاة، وشهد أن زوجة ابنه خائنة، وخانته دموعه فبكى. قال إن الملك دنس فراش الزوجية في منزل ابنه، ثم قتله برصاصة غادرة عندما عاد الابن إلى منزله مبكراً على غير عادته. لم يكمل الأب شهادته، وخرج من المحكمة محمولاً فوق «نقالة» بعدما أغشي عليه. كان مضطراً إلى أن يذكر وقائع الإشاعة على أنها حقيقة دامغة، وإلا انتقمت منه الثورة كغيره من الباشاوات.

لم يستطع الوزير السابق أن يكشف الحقيقة الغائبة، كان حبل المشنقة ملفوفاً بشكل جيد حول رقبته، وليس أمامه إلا أن يحصل على صك غفران من النظام الثوري الجديد مقابل تشويه صورة زوجة ابنه القتيل، لذلك قال الوزير ما قاله بينما يعرف بينه وبين نفسه أن زوجة ابنه الراحل نموذج للشرف، لكن ظروف اللحظة كانت أقوى منه فلم تخرج منه كلمة الحق، وإن كان جسده لم يحتمل فانهار سريعاً.

رغم كثافة الدعاية وتهليل الصحف للفضيحة والعمل على نشرها على أوسع نطاق، فإن الأكذوبة لم تعش طويلاً، فنور الحقيقة كان يتسرب شيئاً فشيئاً رغم كثافة سحب الظلام. كانت الحقيقة مختلفة تماماً، لكن أحداً لم يستطع المجازفة بذكرها أو نشرها أو الحديث عنها آنذاك، حتى بعدما توقفت جلسات المحاكمة والتحقيقات فجأة، وأغلقت النيابة الأدراج على الملفات، ولم يعد أحد يذكر القصة من قريب أو بعيد، ولم يهتم أحد بدموع نوال التي تم تشويه سمعتها وتحويلها إلى خائنة حتى النهاية. لكن ظلت الأسئلة معلقة تبحث عمن يتجرأ ليحل ألغازها.

فماذا كانت حقيقة مصرع الطبيب الشاب نجل الوزير اللامع وزوجته ابنة شقيق رئيس الوزراء؟ ولماذا لم تدافع الزوجة عن نفسها؟ وما قصة غرام الطبيب الشاب بفتاة من عامة الشعب والتي كانت بداية النهاية في حياته؟ ما علاقة الملك فاروق بهذه الأسرة، أم أن الأمر لا يعدو مجرد إشاعات؟

التتمة في الحلقة المقبلة