في عام 1999 كتب الزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا: «حتى اليوم الأخير من حياتي أريد أن أتيقن من أن الذين عاشوا بعدي سيقولون هذا الرجل الذي يرقد هنا قام بواجبه من أجل بلده وشعبه»، ومع رحيل مانديلا يبدو أن وصيته هذه كانت أكثر تواضعاً مما حققه، فقد أحنى العالم رأسه أمس أمام ذكرى هذا الرجل الذي تحول الى رمز وأسطورة وأيقونة لرفض أي نوع من التمييز مبني على العرق أو اللون أو الدين. 

Ad

بعد معاناة مع المرض، توفي ليل الخميس ــ الجمعة الزعيم الجنوب إفريقي، بطل الكفاح ضد نظام العزل العنصري (آبارتيد) نلسون مانديلا عن عمر ناهز الـ95 عاماً، تاركاً وراءه تجربة سياسية وانسانية غنية زاخرة بالمعاني الايجابية وبالنضالات من أجل عالم أفضل. 

وأعلن الرئيس الجنوب افريقي جاكوب زوما عبر التلفزيون الرسمي مباشرة مساء أمس الأول وفاة مانديلا في خطاب متلفز، قال فيه: "الرئيس السابق نلسون مانديلا فارقنا (...) إنه الآن بسلام. خسرت الأمة ابنها الأكثر تأثيرا. لقد مات بسلام، لقد خسر شعبنا أباه".

وشدد زوما على أن "نضال مانديلا من دون كلل من أجل الحرية أكسبه احترام العالم، وتواضعه وتعاطفه وإنسانيته أكسبته حب العالم، مشيرا إلى أنه أمر بتنكيس الأعلام حدادا على مانديلا إلى حين دفنه، ودعا إلى تذكر قيم مانديلا واحترامها، وإلى إعادة تأكيد رؤيته بمجتمع لا وجود للاستغلال أو القمع فيه، مضيفاً: "فلنعرب عن امتناننا العميق لروح عاشت من أجل خدمة الناس في هذا البلد ومن أجل قضية الانسانية".

 وتابع "انها لحظة حزن عميق سنحبك دائماً ماديبا"، وهو اللقب القبلي الذي كان يعرف به مانديلا أول رئيس أسود في جنوب افريقيا من 1994 حتى 1998. 

وأعلن زوما أمس أن مراسم وطنية ستقام لمانديلا في ملعب كرة القدم في سويتو قرب جوهانسبرغ، وسيدفن في الخامس عشر من الشهر نفسه في قريته كونو (جنوب).

وسيسجى جثمان مانديلا في «يونيون بيلدينغز» مقر الرئاسة في بريتوريا من الحادي عشر إلى الثالث عشر من ديسمبر.

يذكر أن مانديلا نقل الى المستشفى في الثامن من يونيو بسبب اصابته بالتهاب رئوي، وقد أعلن في نهاية يونيو ان حالته حرجة، لكنه نقل الى منزله في جوهانسبرغ لمواصلة علاجه.

 

حزن وارتباك 

 

وأفاق مواطنو جنوب إفريقيا أمس على مستقبل بلا نلسون مانديلا، وعبّر البعض عن خوفهم من أن تصبح بلادهم بعد وفاته عرضة للتوترات العرقية والاجتماعية التي بذل المستحيل لتهدئتها. ومع بزوغ الفجر توجه المواطنون الى اعمالهم وقد تملكتهم الصدمة لوفاة رجل أصبح رمزا عالميا للمصالحة والتعايش السلمي.

ورغم تطمينات الزعماء والشخصيات العامة بأن وفاة مانديلا مع ما يصاحبها من أسى لن توقف تقدم جنوب افريقيا وابتعادها عن تاريخها العنصري المرير، عبر البعض عن شعوره بعدم الارتياح لغياب رجل اشتهر بأنه صانع للسلام. وحضر كثيرون القداس في الكنائس وعلى رأسهم زعيم آخر لمقاومة الفصل العنصري كبير اساقفة كيب تاون السابق ديزموند توتو الذي قال انه صدم لوفاة مانديلا مثله مثل كل مواطني جنوب إفريقيا. وقال توتو الذي ترأس قداسا في كاتدرائية سان جورج الانجيلية في كيب تاون: "فلنقدم له هدية... جنوب إفريقيا متحدة واحدة."

وبالنسبة لمواطني جنوب إفريقيا يجيء موت زعيمهم المحبوب، في حين تشهد البلاد، التي نعمت بالاشادة العالمية لانهائها الفصل العنصري، اضطرابات عمالية دامية واحتجاجات متصاعدة على ضعف الخدمات والفقر والجريمة والبطالة وفضائح الفساد التي تلاحق حكم زوما.

ويرى كثيرون أن جنوب افريقيا الآن، وهي اكبر اقتصاد في إفريقيا لكنها واحدة من أكثر دول العالم افتقارا للمساواة، مازالت بعيدة عن نموذج الدولة "ذات أطياف قوس قزح" التي تنعم بالسلام الاجتماعي وتتشارك في الرخاء، كما أعلن مانديلا لدى خروجه مظفرا من السجن عام 1990.

وعلق حزب المؤتمر الوطني الافريقي الحاكم في جنوب افريقيا الذي تزعمه مانديلا سنوات أن البلاد خسرت "مثالا عملاقا للإنسانية والمساواة والعدل والسلام"، مضيفاً أن "حياته تعطينا الشجاعة للسير قدما من أجل التنمية والتقدم نحو إنهاء الجوع والفقر".

 

 

العالم يحني رأسه 

 

وأثار رحيل مانديلا موجة ردود فعل في انحاء العالم لتوجيه تحية الى هذه الشخصية الاستثنائية. ولم يحظ أي رئيس دولة أو مقاوم سياسي أو حائز جائزة نوبل أو سجين رأي بمثل هذا الكم من تحيات الاحترام والتعبير عن الحزن من كل انحاء العالم.

وأجمع القادة السياسيون الذين سيشاركون قريبا في مراسم جنازة الرئيس السابق الذي رحل عن 95 عاما على التشديد على الصفات الانسانية للمناضل الذي امضى 27 عاما في سجون نظام الفصل العنصري.

وقال الرئيس الاميركي باراك اوباما، اول رئيس اسود ايضا للولايات المتحدة، الذي اعلن تنكيس الاعلام في الولايات المتحدة: "لقد خسرنا احد الرجال الاكثر تأثيرا والاكثر شجاعة وأحد أطيب الاشخاص على هذه الارض".

من جهته، اعتبر الامين العام للامم المتحدة بان كي مون ان مانديلا كان "مصدر إلهام" للعالم. وأكد للصحافيين في مقر الامم المتحدة في نيويورك أن "علينا ان نستلهم من حكمته وتصميمه والتزامه لنسعى الى جعل العالم أفضل".

من جانبه، صرح رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون ان "نورا كبيرا خبا". وقال على حسابه على تويتر ان "نلسون مانديلا كان بطل عصرنا". وتابع "طلبت تنكيس العلم امام مقر رئاسة الحكومة".

وفي باريس، اشاد الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند بمانديلا معتبرا انه "مقاوم استثنائي" و"مقاتل رائع". وفي بيان اصدره قصر الاليزيه، قال الرئيس الفرنسي ان مانديلا "كان يجسد شعب جنوب افريقيا وأساس وحدة وعزة افريقيا كلها" داعيا الى تنكيس الأعلام.

واعتبرت المستشارة الألمانية انجيلا ميركل أن "اسم مانديلا سيبقى الى الابد ملازما للمعركة ضد قمع شعبه والنصر على نظام الفصل العنصري"، أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فقد اعتبر أنه كان "أحد أبرز السياسيين في عصرنا".

وأشاد الرئيس الصيني شي جينبينغ "بالمساهمة الاستثنائية التي قدمها مانديلا لتطوير الانسانية"، في حين شبهه رئيس الوزراء الهندي منموهان سينغ بالمهاتما غاندي.

وفي رام الله، أمر الرئيس الفلسطيني محمود عباس بتنكيس الأعلام، واصفا مانديلا بأنه "فقيد شعوب العالم أجمع (...) وفقيد فلسطين الكبير الذي وقف معنا وكان اشجع وأهم رجالات العالم الذين وقفوا معنا".

واعتبر الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز ان العالم خسر "قائدا عظيما" نجح في "تغيير مسار التاريخ وفي بناء جسور السلام والحوار"، ورأى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أن مانديلا كان "قدوة وزعيماً أخلاقياً".

وقال فريدريك دي كليرك آخر رئيس أبيض لجنوب إفريقيا إن أكبر إنجازات مانديلا هو توحيد جنوب افريقيا، والسعي الى المصالحة بين السود والبيض في عهد ما بعد سياسات الفصل العنصري.

 وأضاف: "كان موحدا عظيما ورجلا فريدا جدا في هذا المجال فوق كل شيء آخر فعله. هذا التركيز على المصالحة كان أكبر ميراث تركه".

(عواصم ـــ أ ف ب، رويترز، د ب أ، يو بي آي)

من الزعامة الموروثة إلى العمل المسلح إلى رمز للسلام 

ولد نلسون مانديلا في قرية مغيزو، في منطقة ترانسكي جنوب جوهانسبورغ، في 18 يوليو 1918. كان والده زعيماً قبلياً، ورث الزعامة عن أجداده الذين كانوا يعتبرون ملوكاً، غير أن مانديلا لم يعش عيشة الملوك، بل على العكس عاش طفولة قلقة بعد طرد والده من منصبه كشيخ للقبيلة. 

كان مانديلا يسمع أخبار أجداده ملوك شعب التمبو، فيشعر أنه في زمن لا يعترف بالملكيات الغابرة، خصوصاً في ظل وجود التمييز العنصري وانهيار المجتمع الزراعي التقليدي. 

وحين أنهى دراساته العليا، كانت الحياة الجامعية قد أعطته تجربة قيادية من خلال النشاط الطلابي ذي البعد السياسي إضافة الى اختلاطه بطلاب من مختلف الاعراق، لينتقل بعدها إلى جوهانسبورغ المدينة الرئيسية في البلاد.

عمل مانديلا في جوهانسبورغ مساعداً لأحد المحامين، ومارس نشاطاً سياسياً، فشارك سنة 1942 في حملة ناجحة لمقاطعات الحافلات احتجاجاً على رفع ثمن التذاكر. وشكل ذلك بداية ارتباطه بحزب «المؤتمر الوطني الإفريقي» الذي تأسس عام 1912، فشكّل المؤتمر إطاراً لنشاطه السياسي والاجتماعي.

وبسبب حظر «المؤتمر الوطني الإفريقي» بقرار من حكومة الفصل العنصري التي يقودها البيض، والتي قامت بفرض نظام «الفصل العنصري» (الابارتايد)، مارس مانديلا عمله سراً مع المؤتمر. 

في عام 1961 أصبح نلسون مانديلا رئيسا للجناح العسكري للمؤتمر الوطني الإفريقي. وفي اغسطس 1962 اعتقل وحكم عليه بالسجن 5 سنوات بتهمة السفر غير القانوني، والتدبير للإضراب. وفي عام 1964 حكم عليه مرة أخرى بتهمة التخطيط لعمل مسلح، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة.

أثناء محاكمته الأخيرة، ألقى مانديلا خطاباً دفاعاً عن نفسه، استغرق 5 ساعات، واعتبر الأعمق وقعاً في حياة مانديلا السياسية كلها، إذ أبرزه بوضوح زعيماً لا للمؤتمر الوطني الافريقي فحسب، بل للمعارضة متعددة الأعراق والمعادية للتفرقة العنصرية.

في عام 1985 عرضت عليه صفقة تشمل إطلاق سراحه مقابل وقف المقاومة المسلحة، إلاّ أنه رفض العرض، وبقي في السجن حتى 11 فبراير 1990، أي نحو 27 سنة، إلى أن أدت الضغوط المحلية والدولية إلى إطلاقه، بأمر من رئيس الجمهورية فردريك دو كليرك، الذي شارك مانديلا في عام 1993 جائزة نوبل للسلام.

أصبح نلسون مانديلا في 10 مايو 1994 أول رئيس أسود لجمهورية جنوب إفريقيا، وذلك بعد فوز حزبه «المؤتمر الوطني الإفريقي»، بأكثرية ساحقة في أول انتخابات متعددة الأعراق، في بلد كان يشكل آخر قلاع التمييز العنصري. وفي عام 1999 قرر مانديلا التقاعد بعدما انتهت مدة ولايته، ورفض أن يتم التمديد له، فتنحى عن الحكم.

3 زيجات 

تزوج نلسون مانديلا 3 مرات خلال حياته. تزوج للمرة الأولى من إيفلين نتوكو سنة 1944، وكان سنه حينئذ لا يتجاوز السادسة والعشرين، وأثمر زواجه منها الذي دام 12 سنة عن أربعة أطفال هم ماديبا، ماغاثو، ماكازيوي، وماكي.

بعد طلاقه بسنة واحدة في 1957 تزوج من ويني ماديكيزيلا التي أنجبت له بنتين زياني وزندزيوا، وقد استمر زواجهما حوالي أربعة عقود قضى منها مانديلا 18 عاماً في السجن حتى انفصالهما سنة 1992 على خلفية فضيحة «خيانة» اتهمت بها ويني وإدانتها بقضايا خطف والمشاركة في اعتداء، ووقع الطلاق بينهما سنة 1996. وفي سنة 1998 وهو في سن الثمانين من عمره، تزوج مانديلا من ماريز غراسا ماشيل أرملة الرئيس الموزمبيقي الراحل سامورا غراسا.