قدمت أخماتوفا لقصيدتها التي كتبتها بين 1935 و1940 بالكلمات التالية: «في أعوام ييجوف الرهيبة أمضيت في طوابير سجون لينينغراد سبعة عشر شهراً. عرفني أحدهم في إحدى المرّات. حينئذ استفاقت المرأة التي تقف خلفي من ذهولها، الذهول الذي كان يصيب الجميع، وسألتني هامسة في إذني (كان الجميع يتحدثون همساً هناك): هل تستطيعين وصف هذا الذي يجري؟

Ad

أجبتها: أستطيع.

عندئذ سرى ما يشبه الابتسامة في ذلك الذي كان وجهها في يوم من الأيام {.

ناقدة ومترجمة

خلال تلك الفترة شغلت أخماتوفا نفسها بالنقد الأدبي، لاسيما أدب بوشكين، وأيضاً بترجمة أعمال فيكتور هيغو، رابندرانت طاغور، جياكومو ليوباردي، وشعراء كوريين وأرمن مختلفين، وكتبت سيرة ذاتية للشاعر ألكسندر بلوك.

في عشرينيات القرن الماضي، عملت آنا أخماتوفا في مجال ترجمة الشعر العالمي إلى اللغة الروسية بعدما منعتها السلطة السوفياتية من نشر شعرها، للحصول على مبالغ من المال تساعدها على تدبير أمور حياتها.

اصدرت عام 1956 مجموعتين: {الشعر الكوري الكلاسيكي}، و{الشعر الصيني الكلاسيكي}، وبعد 9 سنوات، أي عام 1965 صدر لها كتابان: {قصائد عاطفية من مصر القديمة} و{أصوات الشعراء}.

  بعد غيابها القسري عن النشر، نشرت أخماتوفا قصائد في مجلة {النجم} الشهرية (1940)، ثم صدر لها مجلد ضم مختارات من شعرها القديم في عنوان {مختارات من ستة كتب}، لكنه سحب من المكتبات قبل انقضاء بضعة أشهر على صدوره، اذ سمحت التغيرات السياسية، بقبولها في اتحاد الكتاب، إنما بعد الحرب العالمية الثانية حُظر نشر شعرها، فأجبرت جلادها جدانوف أن يعترف بروعة شعرها من خلال شتيمة أطلقها، حينما وصفها: {نصف راهبة... نصف بائعة هوى. وكأنها تكتب شعرها بين الملاءة والسرير}.

مديح ستالين

في الفترة نفسها اعتقل ابنها ليف (1949)، وظلَّ في السجن لغاية 1956، وكي تساعد في إطلاق سراحه كتبت أخماتوفا قصائد مديح لستالين وللسلطات الحاكمة، ولكن ذلك كله ذهب هباءً. لذا لم تنشر تلك القصائد في أيٍّ من مجموعاتها الشعرية.

استمر اعتقال الأصدقاء وموتهم يلاحق أخماتوفا. ففي سنة 1953 قضى نيقولاي بونين (زوجها) في قبضة الجلاّد في المعتقل. وكانت أخماتوفا انتقلت لتعيش في بيت بونين في بطرسبورغ، وحين علمت بموته في المعتقل كتبت:

لن يستجيب القلب بعد الآن

لندائي متلهفاً منشرح النبض

كل شيء ينتهي... وقصيدتي ستهيم

في ليل خاو، حيث لم تعد أنت.

    أمّا صديق أخماتوفا الشاعر ميخائيل زوشينكا الذي عانى وإياها المنع والاضطهاد الستالينيين،  فترك رحيله (1958) الشاعرة وحيدة تحت سماء الخوف، فكتبت تبحث عنه:

أرهف السمع لعلّ صوتا يجيء من بعيد

لا شيء حولي، لا أحد

مدِّدوا جسده

في هذه الأرض الطيّبة السوداء

لا غرانيت ولا صفصاف باكي

يظللان جثمانه الخفيف

لا شيء سوى رياح البحر والخليج

تهبّ إليه لتبكي عليه.

اختراق الوسط الثقافي

عاودت أخماتوفا الكتابة والنشر في 1958، لكنّها عانت من الرقابة المشددة. وصار الشعراء الشبان حينها يحجُّون إليها، كونها تمثل بالنسبة إليهم صلة وصل لمجتمع وثقافة ما قبل ثورة أكتوبر الروسية، وما بعدها. وبعد نهاية الحقبة الستالينية عادت إلى نشاطها الأدبي الطبيعي، فكتبت عشرات القصائد التي تمجِّد الحب والإنسان، ودانت بشدة الهجرة والانفصال عن الوطن: {لست مع من يهجر وطنه}. أما موضوعها الرئيس فهو الحب المأساوي الأنثوي الذي يمزج العاطفة بالأسى والحزن بالبهجة والأمل..

حققت آنا أخماتوفا اختراقاً نوعياً في الوسط الثقافي الروسي الذي كان تاريخياً يغلب عليه الطابع الذكوري. هذه الشاعرة الفاتنة شكلاً وشعراً، كتب عنها الشعراء، وجمعت قصائدهم في كتاب {صورة أخماتوفا}،  (1925).

مصدر إلهام

في فترات شبابها الأول، قامت برحلات كثيرة في العالم وحلت في باريس، حيث ارتبطت بعلاقة عاطفية مع الرسام مودلياني. فرسم لها لوحة تليق بها تبدو فيها جالسة ببهاء، بتسريحة تغطي جبينها مثل ملكة فرعونية.

تقول أخماتوفا عن موديلياني: {كان يبدو أنه يعيش في حلقة من العزلة. لم يذكر أبداً اسم صديق، لم يتفكه أبداً. لم يتحدث أبداً عن غراميات سابقة، أو عن أشياء دنيوية. كان مجاملاً بنبل، وكان ينحت تمثالاً في فناء ملحق بالأتيلييه. وقد دعاني إلى {صالون المستقلين في 1911، لكن عندما ظهرت لم يأت الي. وقد أخذني الى القسم المصري بمتحف اللوفر ـ كان يحلم بمصر فقط، {كل شيء آخر لا أهمية له}. وقد رسم رأسي بأسلوب ملكات الأسر المصرية القديمة. لقد انتصر عليه ما كان يسميه {الفن العظيم}.

إلى  جانب مودلياني وضع لها أبرز الفنانين التشكيليين بورتريهات ورسومات شخصية، منهم ناثان آلتمان الذي رسم لها بورتريه يُعتبر أشهر أعماله، بالإضافة إلى كونه أحد أشهر الأعمال الفنّية العالمية. وفيه تبدو الشاعرة جالسة على أريكة وترتدي فستاناً ازرق وتلفّ حول ذراعيها وشاحاً أصفر. يغلب على البورتريه اللونان الأزرق والأخضر وظلالهما. ومن الواضح أن الفنّان استخدم فيه أسلوباً قريباً من التكعيبية.

كذلك كتب موسيقيون بارزون أعمالاً موسيقية حول قصائدها من أمثال: فيرتنسكي، يروكافيفييف، لورا.‏ رأى فيها الموسيقار الفرنسي مونتوفاني بطلة تناسب ما يعتمل في خياله من عرض أوبرالي، يجمع بين التقاليد الغنائية والتعبير المعاصر.

دفنت حية

 عقب وفاة أخماتوفا (1966) كتب الكاتب الروسي كورني تشوكوفسكي عنها قائلاً: {لا دهشة أنها توفيت بعد هذه المحن الصعبة}. المدهش هو {ذاك العناد الذي عاشت فيه بيننا، سامية، فخورة، عطوفة، وعصية على الموت}.

وقال جوزف برودسكي عن آنّا أخماتوفا إنها {دفنت حية لكنها استطاعت أن تتحول من ضحية للتاريخ إلى قاهرة له}. بينما قال عنها أوسيب مندلشتام: {حملت آخماتوفا إلى الشعر الروسي طاقة هائلة، وثروات الشعر الرومانسي الروسي}. ويكفيها مجداً حينما سئُل مندلشتام عن مكانته الشعرية في تاريخ الشعر الروسي فأجاب: {يكفي إنني أعيش في زمن آنـا آخماتـوفا}!!