بعد انقضاء حوالي خمسمئة سنة على نشر الإيطالي نيقولو مكيافيللي كتابه "الأمير"، وهو من أهم الكتب التي تناولت النظريات في السياسة، أمسى عالمنا اليوم أكثر انتهازية ومكيافيللية من أي وقت مضى.

Ad

فالولايات المتحدة بعدما كانت على مر قرنين من الزمن رمزاً للديمقراطية ومخترعةً لشبكة الإنترنت بوصفها ساحة هائلة للشفافية، انتهى بها الأمر بفضيحة تجسس وكالتها للأمن القومي على حلفائها الدوليين، وفي المقابل فقد قام فلاديمير بوتين، العميل السابق لدى لجنة أمن الدولة في الاتحاد السوفياتي سابقاً في بلده الذي يفتقر للحرية، حيث يغتال الصحافيين، بإيواء واستقبال موظف وكالة الأمن القومي الأميركية إدوارد سنودين، كلاجئ سياسي يرفع الشعارات الحقوقية ويعظ العالم في شؤون حقوق الإنسان واحترام الخصوصية.

في غضون ذلك، وفي سورية، لا يعني سفك الرئيس السوري بشار الأسد لدماء مواطنيه بالضرورة أنه سيلقى مصير كلٍ من حسني مبارك أو معمر القذافي، فهو لا يزال في السلطة في دمشق، ويفرض نفسه كشخصيةٍ عديمة الرحمة، متعطشة إلى الدماء وكأنها خرجت من أساطير مكيافيللي نفسه، فهو لا يعاني بأي حال من الأحول من وخز الضمير ولا يولي اهتماماً إلا إلى السلطة.

ويبدو خلاف الصين مع اليابان والولايات المتحدة الأميركية حول جزر سينكاكو (حسبما تطلق عليها طوكيو) أو دياويو (وفق ما تسميها بكين) الصغيرة جداً ميكافيللياً بامتياز. فقد أقامت بكين ما يعرف بـ"منطقة مساحة الدفاع الجوي" على محاذاة الجزر، واعتبرت طوكيو هذه الخطوة تحدياً، في حين أرسلت الولايات المتحدة طائرات B 52 مؤكدة مواصلة طيرانها غير المعلن في أجواء المنطقة.

في الفصول من 12- 14، يحذر مكيافيلي من القوات الحليفة التي يتم جلبها للاشتراك في المعارك لأنها في حال انتصرت يتحول طالب المساعدة إلى مدين لها، وفي حال خسرت تعرضه للإفلاس.

وبفضل معاهدة التعاون والأمن المشتركة المبرمة بين الولايات المتحدة واليابان، فإن أي تهديد للجزر يقتضي تدخلاً أميركياً لمساعدة طوكيو.

شرور وأخلاقيات

من منهم محق؟ من منهم مخطئ؟ ومن يتحلى بالأخلاق؟

كان مكيافيللي سيسخر من أسئلة من هذا النوع، وكان سيشرح لمن يهمه الأمر أنه عندما يتعلق الأمر بالسياسة والسلطة، فلا يعتد بالأخلاق والنزاهة، بل إنهما تغيبان تماماً كما شرح مراراً للراغبين في ارتقاء.

في هذا السياق، حرصت أميركا على الاحتفال بالذكرى الـ500 لصدور كتاب "الأمير" وكأنها مسألة وجودية، وأثنى الفيلسوف والسياسي الكندي مايكل إيغنياتف في حديث إلى مجلة "ذي أتلانتك" الأميركية على أفكار مكيافيللي، مذكراً بأن قرار باراك أوباما المتعلق بالقضاء على أسامة بن لادن كان مكيافيللياً بامتياز رغم تخطيه حدود الأخلاق والحقوق الدولية.

وبينما تدين أي هيئة محلفين ديمقراطية تصفية عدو وأبرياء صودف وجودهم حوله، يجد الكاتب الإيطالي في هذا الفعل أمراً مغفوراً وكان سيبرر قرارات أوباما كلها بالدفاع عن بلده ومثنياً عليها، ولكن مكيافيللي نصير ضبط النفس في حال خدم الأمر مصلحة البلاد، ويشير إيغنياتف إلى أنه من المستحسن مثلاً أن يلغي الرئيس أوباما عملية إرسال صواريخ كروز إلى سورية إن لم يكن يملك هدفاً واضحاً أو هدفاً استراتيجياً قابلاً للدفاع عنه.

وبعد مضي 500 عام ها هو التاريخ يبرئ مكيافيللي أخيراً، فقد وضِع لسنوات على لائحة الكتب المحظورة منذ القرار الصادر عن البابا في عام 1559 وقد وصفه الباحث المعاصر والسياسي المحافظ ليو شتراوس بـ"سيد الشر".

وترى الكتابات الحديثة أنه لكي نستوعب صراحة مكيافيللي الفجة، علينا أن نفهم المرحلة التي أنتجته. يؤكد الكتاب أن نيقولو لم يكن "وحشاً" مناهضاً للتساهل المفرط، بل وطنياً وجمهورياً يحارب لتوحيد الولايات المتباعدة لسنوات طويلة، باحثاً عن سياسي صادق وقوي.

مكيافيللي اليوم حيٌ أكثر من أي وقت مضى، فعالمنا إنما هو عالمه: عنف ونفاق، صراع على المناصب وسلطة ومصالح. عنصر واحدٌ فحسب كان سيفاجئ مكيافيللي في عالمنا المعاصر، وهو شبكات الاتصالات والمعلوماتية الهائلة بحيث كان "الأمير" سيتحول إلى موضوع للنقاش المباشر، والتحليلات والنقد والرقابة.

يخيلُ إليّ الآن وهو يقضي أمسياته على الشبكة متواصلاً مع الآخرين لمناقشتهم، غائصاً في أعماق الشبكة العنكبوتية لوضع خططه والتآمر والبحث عن "أميره" مستخدماً التكنولوجيا الحديثة لإيصاله إلى الحكم ثم لإبقائه فيه لأطول فترةٍ ممكنة متكئاً على بحرٍ من المعلوماتية.

Gianni Riotta