طوال الأيام التي عمت فيها الفوضى، خشي داعمو حكومة البشير ومعارضوها أو أيدوا ما ظنوا أنه قد يكون بداية ما أطلقوا عليه "الربيع العربي في السودان". شملت الأحداث المفاجئة تظاهرات حاشدة في الشارع وموجات احتجاج عنيفة انتشرت في مختلف أنحاء البلد، بعد أن أعلن الرئيس عمر البشير، خلال خطاب نقلته محطات التلفزيون في أنحاء البلد المختلفة، إصلاحات اقتصادية هدفها إنقاذ اقتصاد البلاد الذي ينزف، وقد شملت هذه الإصلاحات رفع دعم الحكومة الكبير عن الوقود. بدا في مطلع هذا الشهر أن الانتفاضة خبت عقب عملية قمع عنيفة طبقها جهاز الأمن المحلي، ولقي خلالها ما يُقارب المئتَي شخص حتفهم، فضلا عن اعتقال نحو 700 آخرين.

Ad

تصف تقارير عدة صادرة من الخرطوم حافلات بيضاء صغيرة كانت تقترب من المتظاهرين. فيترجل منها رجال مسلحون ويروحون يطلقون النار مباشرة على الحشود على مسافة قريبة جداً. صحيح أن الحكومة السودانية أنكرت أي علاقة لها بإراقة الدماء هذه، إلا أن وسائل الإعلام، ومجموعات حقوق الإنسان الدولية، والمجتمع المدني المحلي نددوا بمزاعم الحكومة هذه، معتبرين إياها مجرد أكاذيب.

يتناقل البعض في الخرطوم تقارير عن أن قادة في الحكومة شكلوا ميليشيات خاصة بهم ودربوها وسلحوها بغية تنفيذ عمليات النظام القذرة، ما يتيح لهم إنكار أي تورط رسمي. وتذكر تقارير أخرى أن البشير سافر بنفسه إلى أحياء محددة من الخرطوم وشمال الخرطوم وأم درمان بغية حض الناس على الاستعداد للدفاع عن أنفسهم ضد المتظاهرين، حين بدا أن الانتفاضة بدأت تخرج عن السيطرة والفوضى تنتشر.

ندد فصيل "مصلح" داخل الحزب الحاكم علانية بقمع الحكومة، وكتب نحو 30 عضواً من هذا الفصيل للبشير بغية حضه على إجراء إصلاحات مباشرة. ولكن بدل تبني تدابير إصلاحية، زادت حكومة البشير، في محاولة يائسة للبقاء في السلطة، تلاعبها ببطاقة الأعراق، ساعية إلى إبقاء العرب في الشمال موحدين في دعمهم الحزب الحاكم.

عندما انفصل جنوب السودان عن السودان وشكل دولة مستقلة، باتت دولة شمال السودان المتقلصة تضم مجتمعاً عربيا يشكل نحو 55% من السكان، في حين يعتبر الباقون أنفسهم أفارقة، وقد عوملوا تاريخيا كما لو أنهم مواطنون من الدرجة الثانية أو أسوأ. فتنعت القناة التلفزيونية والمحطة الإذاعية التابعتان للحكومة الشعب الإفريقي بـ"العبيد" الأفارقة الأدنى شأناً، وذلك ضمن إطار جهودهما لتوحيد الشعب العربي وراء حكومة البشير المتداعية.

تخشى النخب العربية في الخرطوم سيطرة السودانيين الأفارقة على الحكومة، ما يعرض مكانتها المميزة وحياتها للخطر. وخلال هذه الحوادث الأخيرة، حققت تكتيكات الخرطوم لتجييش الناس النجاج استنادا إلى ادعاءات كاذبة، ما حرم المتظاهرين، ومعظمهم من النساء والطلاب والمهجرين داخل السودان الهاربين من الصراع، من دعم العرب الضروري لتحويل تظاهراتهم في الشارع إلى ثورة شبيهة بالانتفاضة المصرية.

لا يشهد التأييد العام لحكومة البشير تراجعاً حاداً بين العرب بسبب رفع الدعم عن الوقود، وأسعار الغذاء المتضخمة، وطرد الموظفين العامين، وارتفاع نسبة البطالة فحسب، بل أيضاً نتيجة الفساد المتفشي في الحكومة. فما من أمر أدى إلى تراجع الدعم العام لما اعتُبر سابقاً حكومة إسلامية صافية يقودها الفرع السوداني من جماعة "الإخوان المسلمين" أكثر من فساد البشير وحزبه الحاكم الشامل المستشري. فقد ذكرت برقية أرسلتها السفارة الأميركية في الخرطوم إلى واشنطن ونشرها موقع "ويكيليكس" قبل سنوات عدة أن نحو 9 مليارات دولار سرقتها بانتظام حكومة البشير وأرسلتها إلى الخارج. وتسارعت عملية نهب الخزانة الوطنية هذه منذ ذلك الحين.

عندما خرجت التظاهرات عن السيطرة، بدأ بعض أعضاء الحكومة وعائلاتهم بنقل غنائمهم المسروقة إلى خارج البلد، فقد اعتُقل ابن وزير النفط، الدكتور عوض أحمد الجاز، أحد الإسلاميين المتشددين في الحكومة، في دبي وفي حوزته 10 ملايين دولار نقداً. لكن السلطات في دبي أطلقت سراحه لاحقاً، مدعية أن ما حدث كان سوء تفاهم، وأن المال سُحب بطريقة مشروعة من بنك السودان. لا أحد في الخرطوم يصدق إنكار الحكومة بسبب النظرة العامة السائدة عن أن النظام ينهب خزينة الحكومة، في حين أن الشعب عاجز عن تأمين قوته. فضلاً عن ذلك، يُظهر مؤشر الفساد التابع لمنظمة الشفافية الدولية لعام 2012 أن الحكومة السودانية في الخرطوم احتلت على نحو لافت للنظر المرتبة الثالثة والسبعين بعد المئة في تصنيف الفساد العام بين 176 دولة.

لم تثر تهم الفساد هذه استياء المجتمع المدني فحسب، بل أججت أيضاً سخط قيادة الجيش السوداني؛ لذلك، عندما انطلقت التظاهرات الأخيرة، شككت حكومة البشير في ولاء عدد من كبار المسؤولين العسكريين للنظام، وحرصت على إبقاء كل الوحدات خارج الخرطوم، باستثناء الوحدات الأكثر ولاء، مخافة التعرض لانقلاب عسكري. حتى إن بعض المراقبين أشاروا إلى أن رجال الشرطة العاديين رفضوا تنفيذ الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين. لذلك استُدعيت وحدات من الشرطة السرية المخيفة (NISS) مرة أخرى لإنقاذ حكومة البشير من الانهيار.

لا يقتصر الخطر الذي يتعرض له النظام على رجال الشرطة ووحدات الجيش غير الموالين على الأرجح، فخلال الحربين الأهليتين اللتين اندلعتا بين الشمال والجنوب منذ الاستقلال عام 1956، هاجر أكثر من مليوني جنوبي إلى الخرطوم للهرب من العنف والمجاعة. وقد أثارت هجرة الجنوبيين هذه خوف الحكومات المتعاقبة في الخرطوم خلال الانتفاضات المتقطعة، لأنها هددت سيطرة النخبة على السلطة. صحيح أن معظم هؤلاء المهجرين عادوا إلى جنوب السودان بعد أن أصبح دولة مستقلة، ولكن حل محلهم مئات آلاف السودانيين الشماليين المهجرين حديثاً. تعود عمليات التهجير هذه إلى توجيه الجيش السوداني ضربات محددة إلى أهداف مدنية في أربعة صراعات أهلية محتدمة على أطراف الشمال في دارفور، وإقليم النيل الأزرق، وجبال النوبة، وأبيي.

اشترت الخرطوم خلال هذه السنة وحدها المزيد من الأسلحة من روسيا البيضاء كي تعوض التراجع البطيء في جاهزية الجيش السوداني للقتال. وستتيح هذه الأسلحة الجديدة الأكثر فتكاً للجيش بتوسيع حملات القصف في مناطق الثورة الأربع هذه، لكن المفارقة تكمن في أن عدم الاستقرار سيتفاقم في منطقة الخرطوم الكبرى، كلما ازدادت الاعتداءات على الأهداف الإفريقية السودانية شراسة، وذلك بسبب تنامي عدد المهجرين من مناطق الحرب تلك الذين يقصدون الخرطوم هرباً من أعمال العنف. ولا شك أنهم سيحملون معهم ذكريات الفظائع التي ارتكبتها الحكومة المركزية ضد عائلاتهم، فيما ينمو طابع الخرطوم الإفريقي وتزداد عدائية تجاه حكومة البشير.

يبقى التأثير الأبرز للانتفاضة السودانية الأخيرة، مع أن فقدت زخمها، أن النخب في الخرطوم لمست لمس اليد وحشية حكومة البشير القاسية، ولم تكتفِ بمشاهدتها عبر وسائل الإعلام. أخبرني أفراد مثقفون من النخبة العربية خلال عملي كمبعوث الولايات المتحدة الخاص إلى السودان أنهم راقبوا بخوف أعمال العنف التي تعرضت لها النساء والأولاد والمسنون في دارفور بين عامَي 2003 و2004. لكن دافور تبعد نحو 1126 كيلومتراً عن الخرطوم؛ لذلك لم يشهدوا أعمال العنف تلك شخصياً.

لكن هذا الوضع تبدل عندما بلغت إراقة الدماء الخرطوم بحد ذاتها. صحيح أن حكومة البشير تمكنت، على ما يبدو، من تخطي هذه العاصفة السياسية وسحق الانتفاضة حالياً، إلا أن غضب السودانيين الشماليين يبدو جمرا تحت الرماد، ما يُظهر ضعف حكومة البشير وطبيعتها الهشة، فما من حكومة تستطيع أن تحتفظ بالسلطة إلى ما لا نهاية.

Andrew Natsios